ما أعجبَ الدُّنيا في زهوِها وزُخرفها!
تتدلل حتّى تتمكن فإذ تَمكنتْ أوجعتْ وأبكتْ.
فالدُّنيا ما هي إلَّا طريق للعبورِ إلى الدارِ الآخرة (دار الخلود)، ومع ذلك فإنَّ البعضَ يجعلها هَمّهُ الشاغل وقد يتمادى في ذلك، فتراهُ يظلمُ هذا ويُؤذي ذاكَ رُغم أنَّها دار فناء.
من نِعَمِ اللَّهِ العظيمة نعمة الكتابة؛ فهي حياة مَن ضاقت بهمُ الحياة.. أردتُ الفضفضة مع صاحبتي العزيزة فأمسكتُ قلمي ولامستها بحنانٍ، وكأنَّني أرسمُ عليها لا أكتُبُ، فنِعمَ الورقةُ هي!
حُرِمتُ حقّي من العمومةِ عن قصدٍ؛ حينَ قاطعَ عمّي أبي قبلَ أن أُولَد، فلم أشعُر بتلك الكلمة (عمّي) رُغم بقاءِ صاحبها على قيدِ الحياة.
بعض الكسر قوّة؛ فحينَ يُجرَح المرء من الدُّنيا بأسرها لا يؤثر ذلك فيهِ قدر ما يُجرح من ذويهِ، حينها يتحوّل كسرهِ لقوّةٍ لا تُضاهيها قوّة، حتّى لا يُشمَتْ بهِ من قِبلِهم وحتّى لا يحتاجَ إليهم، فتراهُ يُضاعف مجهودهِ ويبحث هُنا وهُناكَ عن طريقٍ يُثبتْ بهِ نفسه دونَ عناء الفقد لشخصٍ حرمهُ وجوده في حياتهِ وما زالَ حيًّا!
أصعب ما في الأمرِ أن تُعطَى بعض حقوقكَ مِن مَن ليسَ لكَ عندهم حقّ، حينَ حَرمني عمّي حقّي فيهِ، وكذا أخواتهِ حرمنَني حقّي فيهنَّ عوّضني اللَّهُ بأُناسٍ هُم بأفعالهم وقلوبهم أحنُّ عليَّ منهم، ولا عجب فحينَ يبتليكَ اللَّهُ يُعوّضكَ بالذي هو خير.
كثيرًا ما تَمنّيتُ أن أقول عمّي لحُسينٍ _أخا أبي_ ولكنَّهُ لن يقبلها؛ فهو المُستغني عنّي وإخوتي بأولادهِ وحفدتهِ دونَ جِنايتنا بحقّه.
أذكُرُ حينَ كُنتُ في التاسعةِ من عُمري _وكانَ أبي يعمل خارج مصر_ رأيتُ عمّي قادمًا من بعيدٍ ففرحتُ وتَركتُ اللعب أمام البيت، ووقفتُ أبتسم ظنًّا منّي أنَّهُ آتٍ إلينا فحدثَ عكس ما توقعتُ؛ حيثُ مَرَّ حضرتهِ من أمامي وكأنَّهُ لا يراني ثُمَّ طرقَ باب جارنا المُلاصق لبيتنا ودلف.. لكَمْ حَزِنتُ حينها وصعبتْ عليَّ نفسي وتساءلتُ: حتّى وإن قاطعتَ أخاكَ فما ذنب أولاده؟
لماذا تحرمهم من حقّهم فيكَ؟
ألم تعلم بأنَّ اللَّهَ سائلك عن ذلك؟
بكتْ نفسي على نفسي وما سبّبهُ عمّي لي بفِعلِ حرمانهِ إيَّانا من حقٍّ إفترضهُ اللَّهُ عليه.
مرّت الأيَّام وتبيّنَ أنَّ عمّي هو مَن جرحَ أبي قبل القطيعة، ومع ذلك بقيَ الوضع إلى ما هو عليهِ حتّى يهديهما رَبّي.
سُبحانَ اللَّهِ العظيم وبحمدهِ الذي قَسّمَ بعض رّحمتهِ على عبادهِ وسائر مخلوقاتهِ!
ومنها ما يجعل الدآبة ترفع حافرها عن ولدها خشية أن تُؤذيه.. وكما قِيل: الرّحمة لا تُباع ولا تُشتَرى.