الإنسان ما هو إلَّا عَملٌ وسيرة، عَملٌ يرفعهُ أو يحطّ من شأنه، وسيرةٌ تُبقيهِ حيًّا رغم موتهِ أو تُميتُهُ في الأعيُنِ رغم حياته، وفي كُلٍّ هو صاحب الاختيار وسيّد القرار.
كثيرًا ما كُنتُ أسمعُ أخي يمتدح شخصًا بعَينهِ ويدعو لهُ دائمًا، لم أَكُن أعي كيفَ يُحِبُّ المرء شخصًا لم يَراهُ من قبل؟
حتّى رأيتُ أخي يُحِبُّ العرّاب _رَحِمَهُ اللَّه_ ويمتدحهُ سِرًّا وجهرًا وكذلكَ يدعو له، كُنتُ أتعجبُ من صنيعِ أخي، ولا أُدركُ شيئًا واحدًا يُعينُني على التعرُّفِ على كاتبِ أخي المُفضّل؛ إذ كُنتُ طفلةً حينها، لكنَّ عقلي أبى إلَّا أنْ يَعرِفَ مَن يكونُ العرّاب؟
ولماذا يُحِبُّهُ أخي دونَ أنْ يَراهُ رأي العَين؟
اِنتظرتُ أخي حتّى أخذَ يتحدّث عن العرّاب _رَحِمَهُ اللَّه_ وبعدَ أنْ أنهى حديثهُ سألتهُ عن ما يدورُ بعقلي، فأجابني بأنَّهُ كاتبٌ كبير أثَّرَ في الشباب، حتّى أحبّوهُ من كِتاباتهِ وصارَ أبًا روحيًا لهم، كما شّجعهم على القراءة حتّى جعلهم يقرأونَ كما كانَ يتمنّى، هو الطبيب دكتور أحمد خالد توفيق المُلّقب بالعرّاب.
لم أكتفي بإجابةِ أخي فحفظتُ اسمهِ _رَحِمَهُ اللَّه_ بعقلي حتّى أتعرّف عليهِ بطريقتي ما استطعتُ إلى ذلكَ سبيلًا.
حالتْ الأحوال وكَبُرَ سِنّي وعَرِفتُ العرّاب من كِتاباتهِ التي لا شَبيهَ لها ولا نظير، وأضحى من كُتّابي المُفضّلين إنْ لم يَكُن هو أفضلهم.
أُعجِبتُ بروعةِ أسلوبهِ _رَحِمَهُ اللَّه_ وقوّة سردهِ وجزالة لُغتهِ ورصانتها، وعُمق مدلولهِ وغزارة أفكاره.
لم تَكُن كِتابات العرّاب _رَحِمَهُ اللَّه_ مُجرّد كِتاباتٍ للترويحِ عن النفسِ بقدرِ ما كانتْ رسالة، رسالةٌ سامية سَعَى جاهدًا لتبليغها حتّى وافتهُ المَنيّة دونَ أنْ يدّخرَ جُهدًا أو عِلمًا.
العرّاب فريدُ الأدب، مُميّزُ الأفكار، شاملُ الثقافة، موسوعيُ المعلومات، شديدُ الإدراك، حادّ الذكاء، نَشيط العقل بصورةٍ ملحوظة.
كانَ دكتور أحمد خالد توفيق _رَحِمَهُ اللَّه_ يَكتُبُ بقلبهِ لا بعقلهِ وحسب؛ حتّى إذا ما قرأتَ لهُ كِتابًا أو مقالًا تراهُ يُخاطبُ قلبكَ قبلَ عقلكَ بلُغةٍ سرّية، لا تراها لكنَّكَ تُدركها، لا تلمسها لكنَّكَ تشعُر بِها.
تنوّعتْ كِتابات العرّاب ما بينَ رُعبٍ وفانتازيا، وواقعية وخيالي عِلمي، كما قامَ حضرتهِ بترجمةِ عشرات المؤلفات الأجنبية للغة العربية.
أحببتُ مقالات العرّاب كثيرًا، فمقالاتهِ ليستْ ملء صفحاتٍ والسلام؛ إنَّما هي عِلمٌ مُزِجَ بخِبرةِ حضرتهِ نقلهُ لنا بصورةٍ كتابية عَزَّ لها مثيل.
تمتعَ العرّاب _رَحِمَهُ اللَّه_ بأسلوب أدبي أخَّاذ، بالإضافةِ للمَلكة الربَّانية، ممّا جعلهُ مُميّزًا عن غيرهِ مِن الأُدباء.
رغم مرور ستة أعوامٍ على وفاتهِ إلَّا أنَّهُ لا زالَ حيًّا بعملهِ الطيّب وسيرتهِ العَطِرة، وسيظلّ ما دامَ أثرهُ باقيًا فينا إلى أنْ يشاءَ اللَّه.
دكتور أحمد خالد توفيق (العرّاب).. رَحَلَ عنّا بجسدهِ وبَقيَ معنا بعِلمهِ وعملهِ، فرَحِمَهُ اللَّهُ وغفرَ لهُ، وجعلَ لهُ في الفردوس الأعلى من الجنّةِ مقعدًا، إنَّ رَّبّي ذو الفضلِ والمِنّة.