أسير في الشارع بلا هُدى، أتطلع في الوجوه الكالحات، في العيون اليائسات البائسات، في الأجساد المترنحة... الكل يتطاوح بين أصابع الأيام بسخرية... يسير بلا هوادة لعالم مجهول، لثقب أسود يبتلع كل شيء. أتذكر حبيبتي الراحلة، صديقتي المنسية، أحبابي الصامتون، رفاقي الذاهبون، الكل يمضي في طريقه تاركًا بقايا ذكراه.
أغوص في الازدحامات، في التجمعات، بين أروقة الأنفس التائهة، لا أجد سوى رحاية تدور بلا رحمة، تطحن كل منا بعنف، تطحن قلبي حتى يصير دقيقًا تذروه رياح يأسي..
في المترو أتشرب الصمت والتفحص في أعين من حولي، الجميع صامتون، لكن الأعين ثرثارة، تحكي الكثير دون إذن أصحابها، مثقلة أنفسهم بجبال الأحزان التي ترقد فوق قلوبهم.
أقف على المصعد المتحرك، أحزن حينما يصل بي إلى نهايته، تمنيتُ لو يسير إلى ما لا نهاية.
أتذكر موعدًا مع فتاة غابرة، أقرر في نفسي ألا أذهب، أشعر حينها بارتياح، أفيق متنهدًا على صوتها تُخرجني من شرودي وأنا جالس أمامها: «لماذا لا تتكلم؟». أحزن للواقع المؤلم. تسألني عن حالي، لا أجيب إلا بصمتٍ وابتسامة، وداخل ثنايا صمتي أراقصها على سيمفونيات بيتهوفن، أو عمر خيرت، أراقصها ويرقص معنا الهواء والمطر والعصافير والشجر، أعانقها، أقبلها، أتذوق ريقها؛ أفيق على وجهٍ غير الوجه، شخص غير ما رأيت، أتعجل المغادرة دون إبداء أسباب... تلعنني، تسبني، أبتسم وأمضي.
أجلس على مقهى، أطلب قهوتي، طعم القهوة ليس جيدًا اليوم، ينقصه أنفاسكِ، ينقصه تهادي حديثنا على أبخرتها، ينقصه رائحة عطركِ الحييّ، طعم القهوة ينقصه أنتِ...
أقف تحت المياه الباردة بملابسي، أرتعد، أبكي، أحاول الصراخ لكن شيء داخلي يمنعني، أخرج إليك مبتلا، يصعب عليك معرفة قطرات الماء من دموعي، تنهريني، تلكميني على كتفي بعنف، ثم تعانقيني بشدة حتى تبتلّي مثلي وتبكي... فجأة لا أجدكِ، رغم رائحتك في المكان حولي، وصوتكِ الذي يصخب في أذني.
أواعد فتاة أخرى غيرك، أجرُّ بنفسي وقلبي للمواعدة، أجلس أتملى من جسدها العاري، أبحث عنكِ فيه، أتمعن في كل تفاصيله دون تحرك مني، دون إثارة تبدو في ملامحي، ودون إشهار لأسلحتي، تسبني، تنعتني بالشاذ، أضحك، تسبني مرة أخرى بأقبح ما يكون، أزيد في ضحكاتي، ثم أعطيها مبلغ من المال، تلقيه في وجهي باصقة عليَّ، ثم تمضي.
أسير ليلا في شوارع هادئة، أركل عبوات المشروبات الغازية فتصدر صوتا في كبد سكون الليل يؤنس شرودي، أسمع سب أحدهم لي من خلف نافذته، أضحك بسخرية، ثم أكمل سيري وأغني...
أقف أمام السيارات المسرعة، أسمع صوت صرير العجلات وهي تتوقف عنوة، يصاحب صوت عجلاتها سباب صاحبها، أنجو من الموت مبتسما بسخرية.
أسمع صوت بوق القطار في الليل ينوح وحيدا، يناجيني، أبكي على فراقه، أشعر كأنه أخذ شيئا مني معه وذهب.
أعود للبيت وحيدا، أستلقي على سريري، دون إرادة مني أغرق في كوابيسي، جل الوجوه التي رأيتها تضحك في وجهي، ثم يصرخون بقسوة، أصحو من نومي فزعا، أحاول تجفيف حبيبات عرقي، ثم أمسك بقنينة المياه، أفرغ ماءها في جوفي فلا تطفئ ناره، أعود لأحلامي مرة أخرى، أصادق كوابيسي بحب ثم أنام.