في كل ليلة يسمع أصواتا كثيرة، يرى وجوهًا عديدة، لكنها لا تؤنس وحدته، يُحادث كل شيء، وكل شيء يحادثه، القلم، بياض الورق، الكلمات، الحروف، كآبة الليل، هدوءه، اسوداد صدره، رتابة حركته، الساعة، الهاتف، السيجارة التي في يده، كل شيء يرد عليه، يجادله؛ يتأمل كوب الماء الذي يأبى سكب ماءه في جوفه، لا يحب شفافيته، لا يميل لعذوبته. يغازل ستائر الغرفة التي تتجاهله وترقص مع الهواء عمدًا، يثرثر مع نوافذ غرفته فيجدها تعانق عتمة الليل حبًّا، يرى وجوه يعتادها ويعرفها جيدًا، تأتيه كل ليلة، تحادثه تحكي معه معاناتها فيسمعها، يحكي لها ما يُعانيه فتتجاهله!
تحكي له الجُدُر حكايات من سكنوها، آهات لأرواح أنّتْ وجعا بين أركانها، يشعر باختناق شديد كأن روحه تهجره، وأقسى من هجرها عودتها؛ بل ما يؤلمه هو أنها لم تستطع!
يترنح في ليلته كأنها الليلة الأخيرة وقد رَغبت فيه كل آلامه قبل أن يودعها جسده المُنهكْ، يسير في كل شبر في غرفته، تعذبه آلام الإنسانية البائسة، يبكي، يتفكر في ضعفه رغم قوته، عجزه المكاني، يكمل سيره على أطراف اشتعال عقله، يلتهم بطء ليلته بصخب فكره وفوضوية آلامه، يخطو بحذر نحو ذكرياته، يأتنِسُ بدبيب خطواته، يحارب به لهيب وحدته، يرتجي من ليله الطويل أن ينجلي، يريد من عقاربه أن ترحمه من لدغها البطيء، أوليس لمثله أن يُرحم، أو لقلبه أن يُجتبى من زمرة المعذبين؟
يغني مع نفسه بملل وشبه بكاء:
«ألا يا أيها الليل... أدِر كأسكَ... لا تُناولها...»
يشمئزُّ من صوته، ينتشي أيضًا ،يرغب في المزيد فيزيد رغمًا، تستيقظ قطته التعيسة، تأتي على صوته، تجده على حالته تلك فتعود لنومها الهادئ، يضحك عليها بصوتٍ عالٍ، يزيد من رفع صوته قاصدا، فلا تُبالي، لسان حالها يُسمعه قولها: «يا أحمق!»، يرد عليها بصوتٍ عالٍ: «بل أنت الحمقاء». تنظر إليه من بعيد بغضب، ثم تموء وتصرخ مكشرة عن أنيابها، فيضحك منتشيا. فتتركه وتذهب.
يمسكُ قلمه بوهنٍ، يكتب بضع كلمات بائسة في صدرِ أوراقه البيضاء، ينبض صدر الورقة من ماء حبره الملتهب، تُنفَخ فيها روحه، تتحول لحوريات تُشبه مفقودته، وجنيًّات تتشكل في صورة محبوبته، وعاشقات وأخريات، ثم لأشباح تطوف حوله وترقص في فرحٍ وشغب، تتشوش لديه الرؤية، تتداخل فيراها نفسه وهي تترنح على أنغام غريبة نابعة من دقات قلبه المضطربة، يزداد الصوت، تضطرب الدقَّات وتتحول لرعدٍ يهزه بقوة، يرتفع معه العزف، يصمّ أذنيه عما يسمعه، يتسرب الصوت، في روحه، في عقله، في دمه، في شرايينه... يؤلمه بشدة، يبكي، ينتحب، يعلو صوت بكائه بقوة، ثم يهدأ ويتحول تدريجيًّا لزقزقة عصافير في الخارج، فتنير مع نور الصباح دروب ذاته المُنهكة، وحينها... يبدأ في الحياة.