تتمتع العناوين الرئيسية بقدرة رائعة على استهلاك نتوءات تضخم أفكارنا، ومصائرنا، وأحلامنا، وذكرياتنا. كلمة واحدة جعلتني أفقد شهيتي للحياة... أسمع أصواتا والحديث مستمر تحت المبنى الذي أعيش فيه... سمعت الحوار الذي دار بينهما:
_ماهر: ... ألم تسمع آخر الأخبار... تنقذه مجدولين من الانتحار ...
_يزن: كيف ذلك؟ من قال لك هذا الخبر؟
_ماهر: لا أعلم! هو من أخبرني بذلك..
_ يزن: لكن كيف عثرت عليه؟. لا أصدق ربما يكذب علينا؛ أنت تعلم هو مجنون بعض الشيء به مس يتخيَّل أحداثاً لم تقع...
_ماهر: لا تقل هذا يا يزن! إنه صديقنا... أو أنكَ تشعر بالغيرة لأن مجدولين لم تهتم لأمركَ... في محادثة مثيرة للإهتمام أبرمته الشلة عني وعنها والذي سمعته بمحض الصدفة وأنا نازل من على الدَرَج الأخير، وعلى مقربة من باب العمارة... لازلت صفة الجنون ملتصقة بي... لم أهتم لما قالا أصدقاء الطفولة عني... طوال حياتهم ألسنتهم ساخنة ، تبحث عن جميع الشوائب...
_ قاطعت حديثهم: بنبرة حادة... أنا لست مجنونا بالفعل هي من أنقذتني، وروايتي صحيحة.
****
يشعل سيجارته يتأمل رؤوس المارة مدة خمس ساعات متواصلة لم ترهقه كثرة تحركاتهم لم ينتبه للوقت، ولا لحرارة شمس يوليو الحارقة. قرر وضع نهاية لكل نفس يتنفسه حاقداً على أمه يشتمها بأبشع الألفاظ... عرف سرها يردد جملته المعتادة،والمألوفة لأبناء حارته.
_إنَّها قاتلة لقد قتلت أبي؟.
_ لا أحد يصدقني، ألصقت بي تهمة الجنون هي ماكرة في ثوب الخشوع. تباً... وألف تبٍ
وأمام الجميع أتذكر ليوم المشؤوم الذي يرفل ذاكرتي قالت للناس والجيران وأصدقائي إنني جننت وفقدت عقلي.. وكانت تبكي بمرارة لأن إبنها الوحيد أصيب بالجنون نتيجة تعلقه الشديد بأبيه (الحاج مختار). بصقت عيناي بالحقد من شدة الصدمة.
أجلنا المحادثة إلى يوم آخر للحديث، وأنا على يقين، في أعماقي، أنه سيأتي ذلك اليوم وستحاسب على ما فعلته، بعد أن تركتنا يا أبي ! ذاهبا إلى عالم الحق. قضينا ثلاثة أيام في استقبال الناس لتعازينا ..
لا أعلم كيف مررت بكل هذا الوقت دون أن أراها أو أتحدث معها.؟ أسمع من جيراني وإخوتي أنني طفل عاصي، وهي تخجل من كونها أمي؛ منذ صغري كان المشهد يتكرر باستمرار: صفع، شتم، بكاء طفل، ووابل من الكلمات الجارحة. كانت عبارتها المفضلة التي تضايقني ترددها دائمًا على أذني (ليتني مت ولم أنجبكَ.. يا بائس! يا وجع في بطني.!) لم أفهم كلامها حينها. لكنني الآن فهمت سبب قسوتها... أنجبت نفسي، وكبرت وحدي بلا أم، تركني أبي، حينها كان عمري ثماني سنوات، ولم يكن لدي أي علم بالحياة وهمومها... لقد تجاوزت الأيام والسنوات الماضية بالاعتماد على نفسي، والآن أمام قبرك يا والدي العزيز! كم أفتقدت حضنك الذي لا ينمو منه إلا الأمان... تكاد الدموع تغرقني منذ رحيلك أنا أعاني. لقد طردتني من المنزل قبل أن يضعوك في قبرك في اليوم الثاني. لم تسمح لي برؤيتك للمرة الأخيرة. تساءلت لماذا كل هذا الحقد.؟ ماذا فعلت حتى تكرهني يا أبي؟!. الآن عمري 30 عاما، لقد تغير مظهري كثيرا. ملامح وجهي وبنية جسمي ولونه الداكن. الجميع يقول لي إنني أشبهك كثيرًا، خاصة العيون السوداء الكبيرة التي يظهر منها الفراغ والتجول... لقد أصبحت رجلاً يا أبي، تمامًا كما أردت أن يكون لك ابنًا تفتخر به. أنا أدعم نفسي. بعرق جبيني أعيش في شقة محترمة بعيدا عن زوجتك...
*****
الحيرة تنهشني الجو يحتاج إلى جنون... يحتاج إلى إجتياح، إجابات اعتلت ثغرها دون أسئلة تحددها...هي أو هو، عيناها أجابتا عن طلبه... ذهب يركض خلف شيء مستحيل ليتركها ليلتها حائرة...، وقلبه يصرخ بعلاته..
_فلتغفري..!
إنها تبدو وكأنها صحراء قاحلة ، لا حياة تزهر بداخلها ، قبل حضورها كل النساء مماثلة في نظري كلهن بلا قلب مثل والدتي... ، لكن الآن الوضع يختلف... أمامي تتجسد امرأة غير عادية لا تشبه أحداً، جسدي يختنق حباً كل شيء فيَّ يصرخ ويقول إنها هي المرأة المطلوبة... من تكون؟ لم أرها من قبل في الحيِّ؟... بدأت بنات أفكاري تغزل الغرز وتعلقه بوهمي تسارعت دقات قلبي ، الجميع ينتبهون لذلك ، يا فضيحة قلبي!، هذه هي المرة الأولى التي أشعر فيها بقلبي ينبض بضربة أخرى ، كنت سعيدا جدا لأنني شعرت بالنشوة ، ألغيت فكرة انتحاري. في محاولة لاستكشاف منقذتي... لقد تمكنت من الحفر في أعماق قلبي الذي يصر على عدم تقييد نفسه بالنساء..لكنها صاحبة الفستان الأبيض، فالأبيض يليق بها.. لا أعرف ما إذا كنت أحبها أو مجرد إعجاب حقا لقد رميت كل أحزاني خلف ظهري بكل قصصه وفجائعه... أمامها أصبح كائنا هشاً حتى أنني خجلت من نفسي لأنها وجدتني علي تلك الحالة في ثوب الضعفاء، ومن على سطح العمارة ضعيفا مثقلا بالألم ربما أخذت عني صورة سيئة في ذهنها تشكلت صورتي على هيئة رجل جبان، مقهور، غبي... اختار الموت بدل من مواجهة التحديات وصعوبات الحياة التي تعترضه... وبرغم أنها لم تنطق بحرف واحد إلا أن عيونها أدلت ما أحست به من خوف وقلق... بسببها عكفت عن الانتحار وتأجيله إلى يوم آخر، وفي اليوم التالي عرفت أن منقذتي إسمها (مجدولين) لأنه أمر غير قابل للنقاش لم أختبره من قبل! الشوق المحترق للآفاق يطفو فوق سطح التخمينات. هل أنا حقا أحبها؟. والحقيقة أنهم لم يخطئوا عندما قالوا لا شيء يعادل نشوة الحب..
_إنه يوم آخر للحديث.
22/2/2024