عادت ريتا للمنزل بعد زيارة قصيرة لعائلة اخيها وقد كانت تشعر بعدم الإرتياح عندهم بسبب ما مر بيومها.. عند وصولها كانت الساعة قد قاربت الخامسة ( موعد قهوة منذر) فأخبرت الخادمة أن تأخذها له عوضاً عنها، وتوجهت للمرسم.. جلست محاولة تهدئة نفسها وتفكر بطريقة فتح الموضوع معه، إلا أن ذهنها مازال مشوش فلم تهتدي لفكرة ما.
تناولت فرشاة وأخذت تشكل شيء ما، بعشوائية على لوح القماش المجهز مسبقاً ، لكنها أحست بالملل وثقل الحركة بيدها فأعادت الفرشاة لمكانها وخرجت ذاهبةً لغرفتها.
لم تستطع التركيز بشيء ولا حتى التفكير بشيء ولم تجد نفسها إلا في فراشها وقد غرقت في النوم وكأنها بسبات.
ايقضتها الخادمة في الساعة التاسعة لتخبرها بأن العشاء جاهز ومنذر بإنتظارها، فأجابتها بأنها قادمة خلفها، لكنها شعرت بعدم الرغبة في النهوص، في هذه الأثناء دخل الغرفة
_ ليس من عادتك النوم بوقت كهذا.. حتى أنك لم تحضري لي القهوة اليوم. ( قال ما قال وقد اقترب منها للمس جبينها تحسساً لحرارتها)
قالت وقد اعتدلت بسريرها مبتعدة تفادياً للمسته :
-ربما اصبت بالبرد جراء بللي من المطر
_وكيف بللك المطر؟
أردفت متداركة :
-كنت ألعب مع الصغير في الحديقة فداهمنا بإنهماره
_حسناً.. أراك بخير فهيا لتتناولي عشاءك ( قال هذا ببروده المعهود متجهاً لغرفة الطعام).
لحقت به ريتا بعد قليل وجلسا يتناولان طعامها دون أي كلمة، فمنذر لا يفتتح حديثاً، هو فقط يجيب إن بادرته الكلام.. وبهذا الوقت كانت ريتا تحدث نفسها بأن عليها تصفية ذهنها كي تستطيع التفكير بشكل سليم وإيجاد الطريقة المناسبة لمواجهته.
أمضت ليلتها بوضع كل الاحتمالات لما ستؤل إليه مصارحتهما..
سيخبرني الحقيقة وتكون النهاية بالانفصال وعودتي لبيت اخي.
سيعتذر وسيطلب مني الغفران ، وسأغفر له لأنني أحبه وأتمنى أن نكمل بقية المشوار بحب وسعادة معاً
سيطلب مني السماح، لكني لن أغفر له، وإن غفرت فلن ارضى بالبقاء معه.. لطالما كان جبل الجليد الذي لم يشعر بي يوماً ولن يشعر ابداً... من ارتضى لي أن أكون لعبة وزوجة نتاج رهان لا يستحق الغفران ولاحتى ذرة حب من حبي الكبير الذي جعلني اتغاضى عن كل مساوئه دون تقدير ولا اكتراث .
رغم كل غضبي منك ولومي وعتبي عليك، فأنا ايضاً أحمل ذنب إيذاء نفسي، فقد شاركتك فيه، عندما قبلت الزواج منك واكتفيت بجوابك ( لأنك تناسبيني) على سؤالي ( لماذا اخترتني).. تركت للقدر حينها مشيئة ما سيحدث دون تدخل مني.........
هل سأكرر ذلك؟!!.. فمازال قلبي متمسكاً بك.. اأترك له المشيئة ثانيةً؟! .. و استيقظ غداً وأتصرف كأن شيئاً لم يكن؟!!!!!!...
_ هيا انقضي أيها اليوم الثقيل فقد أزعجني كل ما جرى فيك، وكرهت ما شعرت به وما يصيبني حالياً.. هيا انقضي... هيا.
استيقظت ريتا على صوت الرعد القوي.. المطر ينهمر بغزارة..الشتاء قد حل باكراً هذا العام.
نظرت للساعة فإذا بها تشير للعاشرة وبضع دقائق.. وقت متأخر بالنسبة لموعد نهوضها كل صباح.. كان منذر قد غادر فراشه..( لابد أنه يغوص بين أوراقه فهذه الأجواء هي المحببة لديه) كانت تقول ذلك وهي مازالت مستلقية بمكانها، وتفكر بما سيكون عليه يومها، هي لم تقرر تماماً مالخطوة التي ستبدأ منها ولا طريقة تنفذها ولا حتى توقيتها.. لكن المؤكد بالنسبة لها أنها لن تنتظر النهاية كما يشاءها هو، بل هي من ستختم الفصل الأخير من مسرحيته الهزلية هذه.
عند نزولها للصالة وجدت سارة بإنتظارها، والتي جرت نحوها لحظة رؤيتها واحتضتها بقوة
_ريتا عزيزتي، هل أنت بخير؟
-نعم نعم أنا بخير كما ترين ( مبتسمة)
_قلقت عليك جداً، اتصلت بك أكثر من مرة ولم تردي
أجابتها وهي تقتادها من يدها للجلوس قرب الموقد :
-أعتذر منك، فمنذ عودتي بالأمس والنوم يطبق على أجفاني، لم يحدث معي شيء كهذا من قبل
_جيد، فأنت بحاجة للراحة... هذا يعني أنه لم يحدث معك شيء .. ومنذر؟!!
-لم يحدث شيء بعد
_هذا أفضل ، ولهذا أنا هنا الآن
-ماذا تعنين؟!
_ريتا.. ليس عليك استعجال الأمور ..
-بالله عليك سارة!!!
قاطعتها سارة :
_لحظة لحظة، فقط اسمعيني جيداً ولا تتسرعي بالحكم.. هل فكرتي بمرحلة ما بعد منذر في حال كنت قد أخترت الانفصال.. أين ستعيشين؟.. أين ستعملين؟.. أنظري.. قبل ان تقومي بأي خطوة عليك أن تتهيأي للمرحلة التالية من كل النواحي
-سارة.. ( متململة)
_أنتظري ... بحوزتك الآن عدد ليس بقليل من اللوحات التي أنجزتها، وأنا لدي صديقة تمتلك صالة مناسبة جداً لتكون صالة عرض..
حاولت ريتا مقاطعتها لكنها أكملت دون توقف :
_ما عليك الآن فعله هو أن يكون لك كيانك المستقل، عليك التفكير بكيفية الإعتماد على نفسك.. ها؟
-أصبت بالجزء الاخير من كلامك
_كل كلامي يجب أن تأخذيه بجدية.. الآن الأولوية لمستقبلك ولنفسك، ثم يأتي كل شيء بعدها.. ( وكانت تشد على يدها)
أقبلت الخادمة تحمل 3 أكواب من القهوة لتخبرهما أن السيد منذر يريد مشاركتهما القهوة في الحديقة.. وكان المطر قد توقف.
_هيا ريتا وكوني على طبيعتك لا تشعريه بشيء حالياً حتى ننفذ ما اتفقنا عليه.
-لكننا لم نتفق على شيء!
_سنتفق.. دعِ هذا الأمر لي.. نكلمه لاحقاً
وتوجهتها للحديقة.
_سارة، ما رأيك بلوحات ريتا.. جميلة، أليس كذلك؟
-بالتأكيد، ريتا فنانة موهوبة جداً، وأعمالها رائعة
_كنت أفكر بحجز إحدى صالات العرض لعرض أعمالك ( موجهاً حديثه لزوجته) ما قولك؟
أصابتها الدهشة عند سماعها قوله، وحولت بصرها لسارة بنظرات المصابة بالخيبة والعتب بمعنى( تآمرت معه علي).. لكن صديقتها حنت لناحها مدمدمة كي لا يسمع منذر
-أقسم أني فوجئت مثلك تماماً ولا علم لي بنيته أقسم
منذر : ماذا هناك؟
سارة : لا شيء أسرار بين صديقتين لا شأن لك بها ( تضحك)
منذر مخاطباً ربتا : لم تجيبيني..!!
ريتا : لا أظن أني جاهزة لشيء كهذا، وحتى أني لم أفكر به من قبل.. أنا أرسم فقط لـ....
قاطعتها سارة : بالتأكيد لن تعارضي، الفكرة رائعة، كوني شجاعة.. لابأس بالمحاولة حتى إن فشلت، لا تكوني جبانة( وتضحك، محاولة إضفاء جو من مرح لإخراج ريتا من توترها)
منذر : لن تفشل، أنا واثق من نجاحها.. ( ويكمل ملتفتاً لريتا).. متى أقوم بالحجز؟
ريتا : لا أعلم.. ربما علي أخذ بعض الوقت لاحضر نفسي وأقتنع بالفكرة بدايةً.
منذر : لست بحاجة للوقت، كل ما عليك فعله هو الإقتناع سريعاً، معك حتى الغد ( مبتسماً لها)
(ابتسم جبل الجليد.. ماذا خلف ابتسامتك، وما هي النهاية التي قد رسمتها لي.. هل أستحق منك هذا حقاً؟.. ياااا كم تسألت منذ زواجنا لليوم، ولازالت الأجوبة مبهمة عندي!!)
سارة : أنا أقنعها أترك لي هذه المهمة ( تنظر لريتا مبتسمة)
منذر : حسناً سأدع لك ذلك.. ( وهم واقفاً).. ابلغوني عند الإعتماد على موعد.. ( وانصراف مغادراً)
_أقسم لك بعدم علمي بأي من هذا!! .. صدقيني
لم تجب ريتا وأكتفت بنظرات التشكيك
_ريتا، لو كنت قد تآمرت معه كما تظنين، لما طرحت عليك الفكرة مطلقاً، ولكنت تركت له مهمة اقتراحها وأكتفيت أنا بتشجيعك على القبول.. ثم كيف تسيئي بي الظن هكذا.
-لم أقل شيئاً
_صحيح، لكن عيناك قالته
-أنا حقاً متعبة، متعبة جداً
_أقدر هذا، ولذلك اعذرك.. لكن ركزي بما قلته لك، فكري بمستقبلك ونفسك فقط.. هذا هو الوقت المناسب له، والفرصة أتتكِ على طبق من ذهب، فلا تضيعيها.
أنتهت جلسة الصديقتين بذهاب سارة لتخبر منذر بموافقة ريتا على فكرة إقامة المعرض، وبعد وعد سارة لها بأن تكون بجابنها وخاصة في الأيام القادمة حتى لو تطلب منها زيارتها يومياً حتى تقف _ ريتا _ على قدميها وتحصل على استقلاليتها وتستطيع مواجهة أي ظرف يمر بها دون ضعف ولا خوف.
وقفت ريتا وسط مرسمها تنقل نظرها بين لوحاتها التي ملأت الجدران وتلك المركونة في الزوايا، ولأول مرة تنتبه للألوان التي طغت عليها، أنها ألوان قاتمة، شاحبة.. أسود ، بني، برتقالي.. ألوان خريفية، مغايرة لما كانت تستخدمها سابقاً.. جلست على المقعد وهي تحدث نفسها :
_كم تغيرتِ يا ريتا!!.. وكم كبرت، استبقت سنين كثيرة بظرف سنة واحدة!
لا المظهر مظهرك ولا الروح روحك وحتى حديثك ما عاد ذاك الحديث العفوي.. بسمتك وضحكاتك تكاد تتلاشى من أيامك مقارنةً بما قبل زواجك.
تنهدت وهي ترجع رأسها للخلف _ متسأئلة _بعد أن تأملت اللوحة التي تقوم بالعمل عليها والتي لم تنتهي منها بعد..
(مالذي يدور في رأسك يا منذر.. وما غايتك من فكرة المعرض هذه.. أي نية تبيت لي، وبماذا ستفاجئني بعد؟.. ليتني أعلم.. بقي أقل من شهر لذكرى زواجنا، فهل ستنهي رهانك بإعلان كسبك وأنتصارك في يوم ذكراه!!.
أي ما كان بنيتك وبالك لن أسمح لفصل الختام أن يكون _ كما عاهدت نفسي _ إلا وفق ما أحدده أنا).
على الغداء اخبرها بأنه سيسافر هذه الليلة ولمدة خمسة أيام لدولة يقام فيها مهرجان أدبي تمت دعوته إليه، وتابع حديثه بأنه قد تلقى رداً من صالة العرض يبلغوه أن الصالة محجوزة لها بعد أسبوع من الآن، فحثها على الإستعداد جيداً من كافة النواحي.. النفسية، تجهيز اللوحات، إرسال الدعوات، وتنظيم وقتها لتتفرغ كلياً لمشروعها الذي سيليه مشاريع مشابهة لاحقاً، إذ بحسب قوله ( ستحققي نجاحاً كبيرا، وسيكون لك اسم ذائع الصيت ليس بالمدينة فقط، بل أني أراهن على أن تحققي شهرة واسعة في جميع البلاد مستقبلاً ).
"أراهن" !!!.. من مجمل حديثه استوقفتها هذه الكلمة.. بات يسبب لها ذعر، ومقت، هذا اللفظ.
بعد أن قال منذر ( أراك لم تعقبي على ما قلت)، أجابت بانها ستتحضر وتكن على أتم الإستعداد وفق الموعد المحدد، وبمساعدة سارة طبعاً، خاصة وأنه سيكون غائب وهي لا خبرة سابقة لديها بمثل هذه الأمور.
في عصر نفس اليوم تلقت اتصال من اخيها يخبرها أن زوجته متعبة جداً و إنه حائر فيما عليه فعله، فأخبرته أن يأخذها للمشفى وستقوم بموافاته هناك على الفور..
توجهت مسرعة_بعد انهاء المكالمة _ معتذرة من منذر إذ أن عليها الذهاب فوراً وليس بإستطاعتها تجهيز حقيبة سفره.. والذي بدوره رد بأن لا بأس بذلك وبإمكانه فعل ذلك بنفسه.
عندما وصلت لباب الغرفة خارجة منها ناداها فتوقفت وألتفتت إليه تهز راسها بمعنى ( ماذا؟ ) ..نظر إليها دون كلام ثم أقبل نحوها واحتضنها.... أثار تصرفه استغراب ودهشة ريتا، إكتفت بالصمت، والتحديق بعينيه بعد أن أبعدها عنه فقال رداً على استغرابها الذي قرأه بنظراتها ( لا تقلقي كل شيء سيكون على ما يرام)، هزت رأسها ثانية موافقة كلامه وانسحبت خارجة.
في المشفى أخذت تطمئن أخاها بأن زوجته ستكون بخير وطلبت منه الهدوء ريثما يأتي الطبيب ويخبرهم عن وضعها.. في وقت الإنتظار كانت تضم الصغير محاولة اشغاله بالكلام حيث أنه أكثر من السؤال عن أمه وبنفس الوقت كانت تفكر عن سبب تصرف منذر الأخير معها.. ( ما كان قصده بحركته تلك و ماذا عنى بكلامه.. أتراه كان يقصد حال زوجة اخيها، أم كان يرمي لشيء أخر؟!.. قد يكون هذا المشهد هو الأخير بحكايتهما!) لم تجد إجابة .. كثرت مفاجأته، وكثرت حيرتها معها، وضياعها أمام غموضه.
قطع شرودها بالتفكير، اتصال سارة، تستفهم منها عما يحدث بعد أن اتصلت بالمنزل وأخبرتها الخادمة بما جرى.
مضى من الوقت ساعتان.. التوتر والقلق أخذ بالإزدياد..
ظهر الطبيب أخيراً ليخبرهم بأن عليه إجراء عملية توليد مبكرة للمريضة نظراً لسوء حالتها الصحية وخوفاً من فقد الجنين إن بقي بين أحشائها لمدة أطول من ذلك ..أعترض الزوج معللاً بأن موعد الولادة لم يحن بعد، وأنه يخشى عليها وعلى الجنين وإن سلامتها هي الآولى في الوقت الراهن.. طلب منه الطبيب أن يهدئ ويعطيه الموافقة بإجراء العملية حيث أنها في الشهر السابع من الحمل وهذا لن يشكل خطر على المولود، وأن عليه الإسراع بالقبول، فالوقت يداهمهم ولا مجال للتباطؤ.
أخذت ريتا بالتضرع لله أن يخرجا من غرفة العمليات سالمين _ الأم ووليدها _ بعد أن رضخ اخيها لرغبة الطبيب ورغبتها.. اللحظات عصيبة عليه، وعليها. خاصة بهذه الفترة الحرجة من حياتها.
اليوم التالي...
_ريتا عليك التحلي بالصبر.. قدر الله وما شاء فعل
-نحمده ونشكره على ما قدر وقضى ( باكية)
_أعلم أن حملك ثقيل، لكن اخاكٍ وابنه بحاجة لمساندتك، فكوني قوية من أجلهما .. ومن اجلكِ ايضاً.. ربما ما حدث قد قدر له أن يكون بهذا التوقيت بالذات لتختبري مدى قوتك وصمودك أمام غدرات الزمن.. القادم من الأيام يحتاج قوة لا ضعف، فأثبتي عزيزتي.. وأنا معك دوماً، لا تنسي ذلك.
شكرت ريتا سارة على دعمها المستمر، وعبرت لها عن امتنانها من تواجدها بجانبها بكل ما مرت به مؤخراً.
في المساء اتصل بها منذر معزياً بوفاة زوجة اخيها، واخبرها بأنه سيقوم بالإعتذار للجنة المهرجان عن المشاركة، والعودة على أول طائرة متاحة، ليكن بجانبها.. لكنها طلبت منه البقاء إذ لا داعي لذلك فهي بخير، وأن والدته ستكون عندها في الصباح بعد أن سمعت بالخبر، فمتثل لمشيئتها طالباً منها الإتصال به إن احتاجت لشيء.. وانتهت المكالمة بوعده بالعودة بأقرب وقت ممكن.
مرت أيام العزاء الثلاثة _ ببيت اخيها _ غاب خلالها عن ذهنها أمر المعرض الذي بقي على موعده أربعة أيام، فقد انشغلت بالصغير الذي ما أنفك يبحث عن أمه باكياً، وتحاول اشغاله عن ذكرها.. كما كان الأب يتراوح بين التواجد في المنزل صباحاً لتلقي التعازي، والذهاب مساءً للمشفى ليطمئن على صحة مولودته القابعة بحاضنة الأطفال .
**
_ريتا، أعلم أن الظرف غير مناسب.. أود اعلامك بأن بطاقات الدعوة جاهزة، لكن لابد أن تلقي عليها نظرة قبل أن أقوم بتوزيعها
-سارة!!.. أتظنين الوضع الآن ملائم لإقامة معارض وغيرها.
تدخل أخاها _ الجالس على مقربة منهما _ متسائلاً عند ارتفاع نبرة صوتها :
_ماذا هناك؟!
ريتا : لا شيء
سارة : بلى يوجد شيء
اقترب منهما مخاطباً سارة : ماذا؟
سارة : كان من المقرر قبل الحادث المؤسف أنـــ..
ريتا : أرجوك سارة لا داعي للكلام، فأنا لن أقوم بذلك.. على الأقل حالياً!
التفت إليها اخيها قائلاً : أريد أن أعرف .. ما هو الذي لن تقومي به؟
ريتا : ليس بشيء ذو أهمية ، لا عليك منه
سارة : بل بغاية الأهمية يا ريتا، وعليه أن يعرف
رمقتها ريتا بنظرات غاضبة وقبل أن ترد. قال أخاها :
_أسمعك سارة، تحدثي
سارة : أعتذر ، ولكن.. كان من المفترض.. وبهذا الوقت، لولا حصول ما حصل.. أن تكون ريتا تتحضر لمعرضها الأول ، والذي سيقام بعد أربعة أيام..
ريتا : لن يقام سارة! .. ما بك؟! ، ألا ترين ما نحن فيه؟
أطرقت سارة رأسها ولم تجب، فقال اخاها الذي قام وجلس بجانبها : ما نحن فيه لن يدوم، والحياة لن تتوقف عزيزتي، ثم أن سارة معها حق، عليك أن تحضري نفسك، وتلتفتي لحياتك..
أرادت مقاطعته لكنه أكمل : أنت لديك بيتك وزوجك، لا ينبغي لك البقاء هنا أكثر من ذلك
ريتا : هنا أيضاً بيتي، وأنتم عائلتي، وعلي واجب تجاهكم وأنا ملزمة به.. وبالنسبة لزوجي هو لم يعد بعد، ووالدته موجودة إن عاد، لذلك لا تقلق بهذا الشأن فبإمكاني البقاء هنا بحسب رغبتي.. ثم كيف تطلب مني أتركك أنت والصغير، كيف ستدبر أموركما؟ .. ستعود لعملك، هل ستدعه وحده في المنزل.. والصغيرة!! انسيت امرها أيضاً !؟!
أجابها : يوجد من يقوم بالعمل عوضاً عني بهذه الفترة إلى أن ارتب ما ستكون عليه حياتنا القادمة.. والصغيرة لن تخرج من المشفى قبل أسبوع أو عشرة أيام كما قال الطبيب..
_لن اترككم.. أسمعت!
تدخلت سارة تستأذنه بالحديث مع ريتا لوحدهما، فأستجاب لها وانصرف.
_أهدئي عزيزتي لاداعي لكل هذا الانفعال
-ألم تسمعيه.. يريد مني الذهاب لبيتي و.. زوجي!!!
_هو يريد مصلحتك، فبمثل هكذا ظروف يشعر الناس بأنهم أصبحوا عباءً على غيرهم
-لكنه اخي..
وقبل ان تكمل قالت سارة :
_أعلم أعلم ، وهذا واجبك... اذهبي الآن وعودي لنا بالقهوة لنستطيع إتمام حديثنا، وسنجد حلاً لكل هذه الأمور ..
عند عودة ريتا بالقهوة، لمحت بطاقة الدعوة بيد اخيها، فتوقف عن الحديث الذي كان يجريه مع سارة وأشار إليها بيده لتأتي وطلب منها الجلوس بجنبه، وقال :
_قد لا أستطيع الحضور لمشاهدة أختي الصغيرة وقد كبرت وأصبح لها مشاريعها الخاصة.. لكني سعيد لأجلك.. سعيد إذ أراك بدأت بتحقيق حلم لطالما راودك منذ صغرك.. وأكاد أجزم بنجاحك..
أمضى في طريقك عزيزتي ولا تسمحي لأي عائق مهما كان أن يوقفك، فكما ترين لا ضمان بهذه الحياة، لا نعلم ما تخفيه في أيامها القادمة ولا متى تتوقف.
ونهض مغادراً بعد أن شد على يدها بين يديه وقبل رأسها دون إنتظار تعيقبها
أنتهزت سارة الفرصة بعد ما سمعت تشجيع الأخ لأخته، وبدأت بحثها على الذهاب معها للبيت من أجل انتقاء ما ستشارك به من لوحات.... استسلمت ريتا أمام إصرارهما وقبلت بالذهاب، لكنها طلبت من صديقتها _ بعد رؤية بطاقات الدعوة _ أن تجري عليها تعديل قبل إرسالها للمدعوين
_لا أرى ضير إن أبقيناها كما هي، فلا وقت لدينا لإستبدالها كما تعلمين
-لا أريد أن يقترن اسمي بأسم عائلته سارة، افهميني...
ما أقوم به الآن هو ليس فقط لأستقل بذاتي عنه، هو تحدي لنفسي أيضاً.. المتملقين من حولنا كثر، ومن سيستغلون الفرصة للتقرب من منذر من أجل مصالحهم طبعاً كثر أيضاً.. وأنا لا أريد _إن نجحت _ إن يكون نجاحاً زائفاً مصطنع.. إن نجحت أم فشلت!.. فأريد له أن يكون نتاج ما صنعت يداي وحدي، هذا ما أسعى له.. تفهميني؟
_غفلت عن هذا!! ... ومعك كل الحق.. لابأس سأعمل على تصحيح هذا الخطأ فوراً ( ضاحكة).. هيا هيا جهزي أنت نفسك لذهابنا ريثما أجري مكالمة مع المطبعة وأطلب منهم طباعة بطاقات جديدة بأسمك وعائلتك بدلاً من عائلة زوجك.. فغداً يجب أن تكون قد وزعت على الجميع، لم يعد من متسع للوقت أبداً .. وليكن بمعلومك أن هذا سيكلفك مال إضافي وسأقتطعه من المال الذي ستجنينه بعد بيع اللوحات.
ضحكت الإثنتان بعد تعقيب ريتا، بأنها ستحتسب لها نصيب لقاء مجهودها الكبير الذي بذلته لإتمام المشروع
ثم دخلت لتتجهز وقد نوت أخذ الصغير معها، إلا أن أخاها أخبرها بأنه سيهتم به وما من داعي لذهابه معها كي تسرع فيما هي ذاهبة لأجله .
لحظة دخولها وصديقتها لبيتها تفاجئت بوجود منذر جالساً مع والدته في الصالة.. والذان همّا واقفين لتحتيتهما وقد استغربا أيضاً حضورهما، فريتا لم تعلم السيدة أميرة بقدمهما، كما لم يخبرها هو بعودته.
جلس الجميع بعد تبادل التحية والاطمئنان على حال ريتا حيث بدا التعب والحزن واضحاً عليها.. فطمأنتهم أنها بخير لكن ما حدث كان صدمة غير متوقعة.. ثم استطردت بأخبرهم عن سبب حضورها مع سارة وبأنها ستعود لبيت أخيها بعد إتمام من جاءت لفعله.
_هذا عين الصواب يا ابنتي، وأنا أشجعك على هذه الخطوة، أسعدني هذا بحق.. قبل وصولكما كان منذر يخبرني بأنه قد استعجل القدوم لأجل هذا الأمر، ولأجل أن يكن معك أيضاً في هذا الظرف الذي طرأ فجأة .. أتمنى أن تجتازا المرحلة القادمة سويا وعلى خير ما يرام
شكرتها ريتا لتشجيعها لها وتمنت مثلها لو أن الأمور تكون على أحسن حال، ثم استاذنت لمرافقة سارة وإنجاز ما أتت للقيام به، وانصرفت الصديقتان للمرسم.
عند باب المرسم استأذن منذر من سارة _إذ لحق بهما _ أن يكلم زوجته على انفراد لبضع دقائق، فأجابته ( بكل سرور) ثم دخلت وأغلقت الباب خلفها.
وقفت ريتا مقابله منتظرة ما يريد التحدث به.. أمسك بيدها بين يديه وقال ( أشتقت لقهوتك) .. أغرورقت عيناها وهي تنظر إليه فضمها دون كلام ، وما كان منها إلا أن أجهشت بالبكاء كما لو أنها كانت بإنتظار هكذا لحظة..
هي حقاً ترغب بمن يحتضنها لتفرغ مكنون قلبها المثقل بالألم والحزن.. استشعرت دفءً كانت بأمس الحاجة إليه حينها.. لكن.. أتراه دفءً مزيف ورغبتها هي من صورته حقيقياً!!..
لحظتها، تركت كل شيء خلفها.. حزنها لوفاة زوجة اخيهاو قلقها على مصير أطفاله.. حتى "الرهان" وبشاعة ما لحقها من أذىً نفسياً بسببه تناسته.. كانت تحدث نفسها :
(كم أحبك، ولا أحتاج لأحد معي سواك، لا أريد من هذه الحياة غير أن تحبني كما أحبك ونسعد سوياً بأطفالنا - الذين سننجبهم _ لأخر العمر..
سأسامحك، أقسم.. الآن.. إن أعترفت بذنبك وطلبت السماح، سأغفر لك وكأن شيئاً ما كان.. فقط اعترف.. أعتذر وأستغل لحظة ضعفي هذه، سأصفح أقسم.. فهيا وقلها)
_أنا آسف لكل ما حدث.. آسف لأني لم أكن هنا وبجانبك.. تركتك وحيدة تعانين كل هذا الحزن دون مساعدة مني
أبتعدت عنه وهي تكفكف دمعها وبشبه إبتسامة قالت :
_لا بأس، أنا بخير وأقوى مما تظن
_أحب أن أراك قوية فأنا أعلم كم أنت غضة ولينة القلب
_لا أحد يبقى على حاله، الظروف تغير فينا الكثير وتعلمنا ما يجب أن نكونه بحسب حجمها ووقتها
_أجل صحيح، وهذا الوقت سيمضي وسيكون القادم أفضل، ثقِ
هزت برأسها وهي وتنظر لعينيه قائلة في نفسها :
_( مازلت أنتظر أن تطلب الصفح ومازلت على وعدي بمنحك إياه ، فلا تضيع الفرصة.. أرجوك)
أكمل وهو يمسح بقايا الدموع من على خديها :
_أنا الآن هنا فلا تقلقي من شيء
_ما يشغلني ويقلقني هو الأطفال فقط، أخي لن يترك عمله ويجلس معهم في البيت لرعايتهم، هذه مسؤوليتي وعليـ..
قبل أن تكمل قاطعها :
_ما يجب ان يشغلك هو معرضك فقط لا شيء أخر
_كيف؟! هم بـ..
_ أنا سأهتم بإيجاد حل، قلت لك لا تقلقي.. ثم أني قد فكرت بذلك ولا أمانع من أن ينتقلوا للعيش معنا هنا..
_مستحيل!!
البيت كبير ويتسع لنا جميعاً، هم عائلتك ولن أقف متفرجاً ما دام الحل موجود ولا يزعج أحد
_ هذا ليس بحل وأنا لـ...
_هيا أذهبي لسارة أنها تنتظرك وركزي بما أوصيتك، معرضك فقط.
وتركها وأنصرف.
دخلت مرسمها تجر خيبة أملها به.. وأخذت وجهها بيديها باكية :
_خيب ظني
-بماذا؟!
لم تجبها واستمرت بالبكاء
لفت سارة ذراعها حول كتف ريتا وهي تقول :
_هونِ عليكِ عزيزتي ودعِ الحزن عنك، عندك الآن مهمة قد جئت لأجلها وأتركي للأيام ما سيأتي فهي كفيلة به
_أخشى القادم يا سارة.. وأخافه جداً
_الله وحده العالم به.. فتفائلي خيراً ليكون خيرا
_لعله خير.. (وربتت على يد صديقتها ونهضت لإنجاز عملها).
_كل هذه اللوحات!.. إنجاز عظيم في شهور قليلة!
أنتِ حقاً ماهرة.. سنأخذها جميعها، فكلها رائعة والصالة كبيرة
-كما تشائين، هي مجرد تجربة سأخوضها، ولم تكن بحسباني أساساً .
_أراك قد فترت همتك، لم نتفق على ذلك!!
-صدقيني يا سارة ليس لي رغبة بشيء، أتمنى لو أهرب لمكان لا أعرف فيه أحد ولا أحد يعرفني .. أن أفقد ذاكرتي.. أن أولد من جديد.. أو.. أغادر هذه الدنيا
_كفى كفى، لن يفيد هذا الهذي السوادوي بشيء، سأتصل بمكتب الشحن لنقل اللوحات فوراً، غداً يجب أن تكون كلاً بمكانها فلم يتبقى وقت لنضيعه بالكلام.
دخلت الخادمة بكوبين من القهوة وطبق حلوة ووضعتها على الطاولة.
أخبرتها ريتا أن تبلغ منذر بقدوم عمال الشحن ليكن على دراية بالأمر، فأومت _الخادمة _ بالإيجاب وغادرت
_تعالي وتناولي قهوتك ريثما يحضرون
-وهو كذلك، لن يتأخروا المكتب قريب وسيكونون هنا خلال مدة قصيرة
أثناء تناول القهوة كانت نظرات ريتا مركزة بلوحتها التي لم تكتمل، فلاحظت سارة ذلك وقالت معلقة وقد وقفت بجانبها :
_ينقصها شيء لا أعلم ما هو، لكني أراها إن اكتملت فتكاد تنطق
-ربما الصمت حرياً بها أكثر!
_لما لا تكمليها ونأخذها مع البقية؟.. واثقة بأنها ستحظى بأهتمام أكبر من غيرها
-لا يا عزيزتي، هي خاصة بي، أود الاحتفاظ بها لنفسي، ثم أن لا طاقة عندي للعمل حالياً
_أرى ذلك، ولهذا سأقرأ لك فنجانك عله يحمل ما قد يمنحك قليل من الأمل والتفائل
ضحكت ريتا من كلامها ، فسعدت صديقتها بذلك فهو ما كانت تسعى إليه..
_اشتاق لقهوتي! ( قالتها بإبتسامة ساخرة)
-أرأيتِ؟.. قلت لك أنه يحبك
_بربك سارة..! أين الحب في هذا؟!
-كان يقصد أنه اشتاق لكِ
_لكنه لم يقلها.. استكثرها، وثقل لسانه على النطق بها
-يكابر
_تباً له ولكبريائه.. أتعلمين أني بلحظة ضعف قبل قليل كنت سأسامحه على كل شيء لو أنه أعترف وأعتذر.. لكن استعلاؤه وغروره أكبر من أن يتفوه بحرف.. يثير بداخلي ألف بركان وبركان دون أن يهتز داخله لو هزة، جبل الجليد هذا..
-لكن عليك الإعتراف بأنه تغير عن ذي قبل، كما لاحظت أنا ، تصرفاته توحي بحبه.. صحيح؟
_تصرفاته فقط
-أوليس الحب أفعال؟!
_نعم، الحب أفعال لا مجرد أقوال أوافق هذا تماماً.. ولكن ذلك بين محبين اعترفا لبعضهما بالحب وليس بين زوجين أحدهما يحترق والآخر لا مبالي..
أتعلمين يا سارة يكفيني أن أسمعها منه مرة واحدة وسأقبل أن أراها بعد ذلك بأفعاله دون أن يكررها..
( أكملت ضاحكة)
يال سخافتي.. أنظري بما أفكر!. ومتى؟! وعن من أتحدث هه.. قد فات الآوان..
بهذه الأثناء عادت الخادمة تعلمها بقدوم العمال وأن منذر ينتظرها في حديقة المنزل ليقوم بالإشراف على عملية النقل.