ما باحبش الأرقام عموما، وبلاقي صعوبة في التعامل معاها، بس طبعا مفيش غِنى عنها! لكن دايما عندي ميل خاص -بدون أسباب واضحة- لرقم ٢ ورقم ٤، ومن هنا ممكن تستنتجوا إن عندي جرعة تفاؤل وأمل خاص مضاعف مرتبط بالسنة ااجديدة!
قبل ما أرحب ب ٢٠٢٤، دواعي الوفاء والذوق تقتضي أفُوت السنين اللي فاتت بشوية عرفان؛ الأربع سنوات الأخيرة مهمة قوي بالنسبة لي، ولو ربنا مد في عمري أقدر أعتبرها من أهم سنين عمري اللي فات واللي جاي!
برغم إن جداول أهدافي اللي كنت حاطاها فيها اترحلت شوية، وبرغم إن رحل فيها عن عالمنا -عالم الطين- أغلى وأحب الاخوات لقلبي، وكتير من المعارف الغاليين!.. لكني استعدتهم روحيا بطريقتي، ومستبشرة بوجودهم في جوار المولى الأحن علينا مننا.
تفرد السنين دي وخصوصيتها بالنسبة لي، سببهم مش مقتصر بس على كوني عرفت فيها أصدقاء مميزين جدا! باتمنى يكونوا أصدقاء عمر وحياة، ولا عشان استعدت فيها زملاء واخوات غاليين كانت لخبطة الدنيا مفرقانا، ولا عشان أتأكد لي فيها الدعم والحب اليومي اللي بانعم بيهم من أسرتي وأساتذتي وأصدقائي في الشغل!
ولا حتى عشان حسمت فيهم موقفي من طرق حيرتني كذا سنة من عمري! يا ترى هيا كانت معابر لروحي ولا مقابر لها؟! أيا كانت الإجابة لم تعد مهمة! لأني تقريبًا ما بقتش بشوفها، ما بقتش باتوه ولا بابص ورايا.. وحتى لو حصل باكون عايزة بس أتأكد إني ماشية لقدام، كل الأنين والحنين اتحول بشكل عجيب لعرفان وامتنان! والطرق دي تقريبًا اختفت من الخريطة وما بقتش حتى ضمن الاختيارات المحتملة!
سنين شت فيها طفرة نفسية كان نفسي أوصل لها من زمان! وهي رؤية سبيل القرار! ..وبداية تحسس خطواته.
قبل ما أحكي لكم حدوتة سبيل القرار، خليني أكلمكم عن شوية حاجات مريت بيها في عمري..
طفولتي وصبايا وحياتي كلها عمرانين بنعم مليش أي فضل فيها غير كرم ربنا سبحانه وتعالى، باحاول دايما أكون مدركة للنعم دي، وكنت دايما باحاول أتعامل معاها بمسؤولية، بقدر متطلبات كل مرحلة وبقدر وعيي وإرادتي ووسعي .. الحمد لله رب العالمين.
بس دايما فيه حزن كامن جوايا، آهة مكتومة عايزة تنفجر، لو حد بص في عيني كام دقيقة متواصلة هيلاقي دموع بتنهمر لوحدها حتى من غير ما يقول لي أي كلمة!
ماشية بوجع كبير أكبر من طولي ووزني وعمري، وجع بيبدأ بافتقاد أوضتنا وبيتنا القديم واحنا صغيرين! بالحنين لمدرساتي وزمايلي وأصدقاء الدراسة بكل مراحلها!
وجع كان بيجلدني كل سنة لما بنسلم على حبايبنا في المطار واحنا مسافرين وسايبين مصر، وجع عرف يدبل ملامحي لما ودعت حبايب سابونا للعالم الآخر وما كنتش أعرف إني ممكن أستعيد وصلهم تاني!.
وجع نهش روحي لما بشوف أحلامنا بأوطان حرة وكريمة بتتصادر، وبيروح في الحرز خيرة الرجال والبنات!
وجع مت وصحيت ميت مرة على صراخه في وجداني! لما كنت ماسكة فاس بحاول أزرع أرض حلمت بيها تكون جنتي، لكن في كل مرة كنت باحاول أشقها كنت باشق ف قلبي وأكسر في ضهري! وما اقدرش ألوم حد على ده بشكل محدد وواضح!
قبل ما أقع من طولي خالص، لحقتني إيد النعم اللي كنت بدأت غصب عني أنساها!
أنا ما رحتش قبل كده لطبيب نفسي، بس بعد كم المعارف والخبرات اللي اكتسبتها مؤخرًا، أقدر أقول بثقة إني كنت مرشحة وبقوة لإني أكون مريضة اكتئاب، بأعراضه الحقيقية اللي متعدية بالتأكيد اضطراب المزاج، أو الحزن المؤقت، مش عايزة أدخل بعمق قوي في تفاصيل الأسباب اللي خلتني أقول كده.
كفاية أقول أن إحنا مش بنقدر مهما كنا نمتلك الوعي والمعرفة، ومهما كانت سلوكياتنا المباشرة الظاهرية منضبطة وطبيعية -ويمكن كمان الناس بتشيد بيها- ومهما كنا حاسين وسامعين صوت الهوا اللي بيصفر من الخوف جوانا، وساعات بنحاول نعبر عنه.. بس مش دايما بنعبر بالمفردات الصح، ولا في المكان أو مع الشخص الصح؛ بنزعق لولادنا بهستيريا من غير سبب مفهوم، ونقول عشان المذاكرة! مذاكرة ايه دي بس؟! كل أعصابنا بتتنطر من مكانها عشان واحد كسر إشارة؟! بنمسك في خناق بعض ونتفزع على أقل حاجة وأصغر حاجة! طول الوقت قلبنا شايل! شايل ومعبي! سواء من حاجات عليها القيمة ولا متساويش! طول الوقت جسمنا مجهد وتعبان سواء عملنا مجهود أو لا...إلى آخر كل المسلسل التراجيدي ده.
كان عندي وقتها شوية تفاصيل تانية أكثر خطورة زي مثلا إني بدأت حرفيا أزهد الحياة! وكنت باقاوم بعض الأفكار مش مهم التطرق ليها دلوقتي.. لأنها الحمد لله ماطولتش وانتهت تماما من فترة طويلة!
انتهت أول ما اتشافت صح، اتشافت بضعفي قبل قوتي، أول ما تسامحت مع احتياجي للمساعدة وعبرت عنه بوضوح تام لاخواتي وبابا وماما، اكتفيت وانتهيت من دور أنا جدع وعايز عشرة يكتفوني!
مديت إيدي ومن غير ما اتكلم وقبل ما الحق أنطق، كان ضهري اتشد، وقدمي اللي كانت بتنزف بقت بتقفز!
دي كانت البداية الحقيقية لإني أفهم سبيل القرار، بس ماكنتش لسه بدأت أمشي في اتجاهه.
بين التعلق والخوف من الفقد، كان العدم دايما بيبلعني، سواء أدركت ده أو ما أدركتوش، التعلق بيبدأ طبيعي مع بدء تكوينا ويمكن ده راجع لمصدره... كلمة علق!
(خلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ).
بس السنة الكونية تقتضي إن العلق ينمو ويغادر المشيمة، عابرا في سبيل الله في سبيل القرار حتى الوداع!
(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ)
يعني طول ما احنا في سبيل الله، احنا في سبيل القرار، في سبيل الاطمئنان!..
طول ما احنا متعلقين وخايفين من الفقد طول ما احنا بين جدران مشيمة مظلمة، ممكن نكون مش شايفينها، بس هيا حاجبة عننا النور والهوا، وبتخدعنا بدفا وأمان كدابين وأقل القليل من الزاد والحياة!
على أد التعلق وعلى حسب نوع تعلقنا بيكون كثافة الجدران وحجم الضلمة! التعلق مش بس بالأشخاص الغلط، أو الصح، التعلق بيبدأ حتى بصورة رسمناها عن نفسنا، حطينا في اعتبارنا إن دي الصورة المثالية، ومش قادرين نتسامح ولا نتهاون لا مع نفسنا ولا مع الدنيا طول ما احنا مش مرسومين بالضبط زي الصورة دي!
واللي يفرس إن حتى الصورة دي ساعات بنعرف نوصل لها وما بتكونش سبب سعادة ولا حاجة، بالعكس ساعات تزود خوفنا من فقدها أو تعلقنا بالامتيازات اللي حققتها لنا!
والأسوأ إن البعض منا بيسكن الوجع والخوف بدوشة كدابة، وبلالين بتفرقع طول الوقت، بيلهي نفسه فيهم من مواجهتها بحقيقتها!
مسلسل ملوش آخر من التعلق والخوف من الفقد، وبينهم فراغ بالع ضحك كتير من القلب، وأنفاس مطمنة، ونوم بعمق ملء الجفون، وغُنا بصوت عالي ورقص أهبل وتنطيط!
فراغ بالع ابتسامات صافية في وش بعضنا، ودعوات صادقة في ضهر بعضنا! فراغ بالع الحب الحقيقي المجرد من المصالح والشهوات، الحب اللي بيمد من نَفْسه من غير مقابل.. فراغ بالع فينا روحنا.. روح ربنا!
ما بدأتش أحس إني بامشي في السبيل للقرار غير لما سامحت من قلبي كل الناس، ولما اعترفت من قلبي إن مفيش حاجة حصلت لي، ولا هتحصل لي أنا مش مسؤولة عنها، ولما أدركت إن احنا ما بنتوجدش في حياة بعض صدفة، ولا من غير هدف، وما بنجيش الدنيا عشان نمشي منها من غير ما يكون لينا دور نختاره وننجح فيه.
كلنا ممكن في لحظة نكون أيادي للرحمن، نشاور وندل -مش لازم بشكل مباشر'، نطبطب ونسلم ونشد لقدام! -برضه مش لازم بش كل مباشر-، ساعات أكتر إيد بتدفعنا لقدام هيا الإيد اللي بتقرص وتزق.. المهم نراجع نيتنا ونوزنها في ميزان صادق من غير ما نكيل بمكيالين.
(وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3))..
والحقيقة الأكيدة إني ما بدأتش أشوف سبيل القرار، غير لما شفت ضعفي وسامحت نفسي ووثقت فيها إني أقدر في أي لحظة، -وفي كل لحظة- أبدأ من جديد، واتولد تاني وأفجر مشيمة الظلم أيا كانت.
أنا لسه باحبي (بازحف) في السبيل تاتا.. تاتا، لو ربنا كتب لي عمر أنا ناوية بإذن الله أطير !
يا أهلا ٢٠٢٤!