جدي عبد الجواد الطنطاوي.. كنا ونحن صغارًا، دائمًا ما نؤكد على الاسم الكامل لجدي؛ والد أمي، وعم أبي، تمييزًا له عن الجد الثاني؛ عبد الجواد الطيب، خال أمي، وعم أبي أيضًا!
كنا نحب الاثنين -عبْدَي الجواد- كان كلاهما جوّادين على طريقتيهما، نستشعر طوال عمرنا، ومنذ الصغر، تفردهما.
أتوق للكتابة عن جدي الطيب -رحمه الله- دكتور اللغة العربية، الهائم بالفصحى وبإعراب القرآن الكريم، صاحب كل تلك المآثر التي لطالما أفصحت عن طيبته، ووَرعه. لكني سأدخر له لغة متأنية، أحييه بها لاحقًا، وأترك اليوم صهد عاطفتي شفيعًا، يمرر هشاشتي، في ومضة أكتبها؛ أضيء بها شمعة، بعد رحيل جدي عبد الجواد الطنطاوي، بأيام.
إنه ذلك الجدُّ المرح، الذي يوزع علينا العيدية بصخب يتماهى مع العيد، فيعطينا إياها بالتقسيط بعد أن يوقفنا صفًا طويلا، ويلاعبنا قليلا، ثم يشاركنا ضحكاتنا التي ترجُّنا رجا!
إنه ذلك الجد الذي سندرك يومًا ما، أنه كان لواء شرطة! نزوره في أجازاتنا الصيفية زيارات؛ تُقاس في عمر الزمن بالسّاعات، لكن مقياسها في الأثر لم أستطع معايرته، إلا عندما داهمتني تلك الغصة، تعتصر قلبي في قبضة شديدة! وحسام أخي يهاتفني: (البقاء لله.. جدو في ذمة لله).
لم أتفاجأ، نتوقع الخبر منذ أسابيع؛ عندما نُقل (جدو) للعناية المركزة، وكنا ندعو له أن: (يارب..ما تتألمش يا حبيبي).
كان (جدو) فاقدًا/مضطرب الوعي -أغلب الوقت- في الأيام الأخيرة، لكنه ما إن تُتْلى عليه آيات من القرآن، حتى يُكملها، وكأن وعيه يقظًا تمامًا!
أركب سيارة حسام، بصحبة (خالو) في طريقنا للمستشفى، وأرى جدي مبتسمًا، جالسًا على كرسي الصالون، فاردًا ذراعيه على قائميه المدهبتين، يرفع كتفيه كعادته أكثر من المعتاد، واضعا ساقًا على ساق، يومئ ويشير ويتكلم، كرجل معتد بنفسه، فخور بتجربته في الحياة، ذلك الفخر الصحي؛ الذي يزيد من اكتراثه بالآخرين وتشجيعه لهم، ويكثف من رصده لقيمتهم وبذلهم.
قامته المتوسطة في الطول والوزن، ملامحه الدقيقة، التي تؤكد وسامة وجهه وبشاشته، وصوته الذي جمع بين الزوايا الحادة، والموج المُنغٌم، يبوح جميعهم بشبوبية روحه وصباه، ويزيدونه -بجانب ألق حديثه- حضورًا، وبهجة.
يحكي لنا بتفاصيل رشيقة، مُشوّقة (وكأننا نرى عرضا حيًا، لرواية جديدة يكتبها توفيق الحكيم عن الأرياف) كيف واجه تحديات عدة حتى امتحن الثانوية العامة، وتخرج من كلية الحقوق، بعد امتهانه التدريس لسنوات، تقاطع بعضهن مع دراسته بالجامعة.
كان من أوائل خريجي الجامعة في قريته، في أوائل خمسينيات القرن العشرين، حيث التعليم العالي لقاطني الريف يعد حدثًا! خرج من قريته (البلد) متمردًا/مسافرًا إلى القاهرة، التي لم يسمح لها بأن تقهره بصخبها وتيهها، بل على العكس، جاب مناطقها حتى روّضها، وسكن روضتها، ملاصقا لنيلها، في حي من أقدم أحيائها -حي منيل الروضة- وكأنه يتحصن به أسوة بكل من تحصنوا في الجزيرة على مر التاريخ.
يجلس في الشرفة الصغيرة التي تتسع مع كل طُرفة يداعبنا بها (جدو)، محمولة مع عبق ياسمينٍ تَعلّق في شجرة قريبة، وموج نسمة تتحدى أصالة الشجرة، فتراقص أوراقها وأغصانها، والنيل يؤازرهم بدوره مائجا متمايلا!
كانت أجواء الطرب الروحي هذه؛ مباركة بالمسجد المقابل تماما لمنزل جدي، والذي احتوى فروضه ونوافله، واحتضنت أبسطته همس دعائه، وأنفاس السجود.
تمر السنوات، ويكبر الأحفاد، ويكبر (جدو)، ورغم دوام إقامتنا في مصر، إلا أن زياراتنا له ظلت متباعدة؛ بحكم فروض المعيشة، وظلّت مؤثّرة بحكم اختيار النبض.
تخْفُت الذاكرة المتقدة، وتتشوش قليلا بحكم السن، فينسى للوهلة الأولى اسم ابنتي، وعندما أذكّره بها (حبيبة يا جدو)، يرفع حاجبيه ويعيد اسمها بصوت مرتفع، قائلًا: (طبعا حبيبة! دي جت بعد ما قعدت أدعي في العمرة وأقول يا رب حنان.. كل ما آجي عايز أدعي لحد، تيجي صورتك في بالي، وألاقيني باقول: يا رب حنان.. يا رب حنان!)
فأجيبه: (هي هدية ربنا، ودعاءك لي يا جدو كان البشرى.)
باغتتني الدموع، بينما أخابر رئيسة القسم معتذرة عن الذهاب للعمل. يساورني القلق بخصوص (خالو)؛ ابنه البكري، الذي أعرف مما يرويه لي، أنه ليس أبًا عاديًا بالنسبة له، كان فارق العمر بينهما أقل من عشرين سنة، وعلاقتهما المركبة مرّت بالكثير من التحديات، وانتصرت أخيرًا للاستثنائية، والتميز.
تنبسط الانقباضة شيئا ما، عندما أطمئن على أمي وخالاتي وخالي، أراهم راضيين، مطمئنين، نجلس خارج غرفة الغُسل، نقرأ القرآن، وننتظر انتهاء الإجراءات.
أسأل إن كان يمكنني أن أسلم عليه وأراه لمرة أخيرة؟.. تقول خالتي: (تعالي يا حنان... ده كان بيحبك قوي.. على طول يقول حنان.. حنان!.. )
دخلت الغرفة، أراه نائما في سلام تام، وكأنه يطفو على موج يحمله في النيل، وتداعبه نسمة، شعرت بها حولنا، تطوف ربما بصحبة ملاك ما، انشرح قلبي، وسَرَت في أوصالي برودة عذبة، لم أفهم من أين أتت وسط قيظ يوم صيفي، درجة حرارته فاقت الأربعين درجة مئوية!
لم أنتبه لدموعي المنهمرة، إلا عندما قالت لي خالتي: (بتعيطي ليه يا حنان؟! هو جدو مبسوط دلوقتي).. (عارفة) أجبتها بعد أن قبّلت جبينه.. وهمست له؛ (يا رب نتقابل يا جدو يا حبيبي، ونكون معاك في النعيم.. في أمان الله).