تنتابني غصة بين الحين والآخر أني لم أوفِّ نفسي ما وعدتها به؛ أشرف العام الجديد على الحلول ولم أتمكن من إتمام روايتي كما كنت أتمنى، برغم أن مشاهدها تحتل وجداني، تختمر فيه قبل أوراقي، ولا يفصلها عن الالتحام بين ضفتي غلاف يحميها إلا أن أؤدي ديْني الكبير تجاه أسرتي وعملي.
يهوّن عليّ قليلا عهدي الأكبر والمتجدد لنفسي، أني لن أعير الوقت أهمية مادمت ماضية في حقلي، أغرس وأحرث ما استطعت لذلك سبيلا.
لكن!.. في عداد الزمن هناك ما يولد لدي اكتراثا من نوع خاص! إنه ذلك اليوم الذي خصصه العالم للغة العربية، يوم أجج بداخلي ما أحياه بها وفيها، وهي بالنسبة لي عالم، تكرمني إن أهدتني يوما أتحدث فيه عنها!
#اللغة_العربية:
إنها اللغة التي صقلت ملامحها في مسابقات الشعر! فإذا كانت اللغة في العموم نقل ما يجول بالباطن وتجسيده للملأ، نجد اللغة العربية وقد أثرت رحابة الباطن وخياله قبل أن تجسده!
لغة نمت وهي تلبي التوق للإبداع، كتفا بكتف مع الحاجة للتواصل! فأجاد الوصل وابتكر فيه من أتقنها وأبدع فيها.
لغة المترادفات العصية! فلا تمام لإدراكها دون قراءة كامل السياق، لغة تعكس الروح في مرايا الكشف على ضوء التأويل والفهم.
لغة يموج المعنى في كناياتها واستعاراتها ومجازاتها، يشرب منها ولا يرتوي، يختمر في تجلياتها ولا ينضج! نزال لاينتهي.. بين المعاني وبين اللغة التي عكست كلمات الله! مطارحة ينضب لها بحر ولاتُحسم ولوجئنا بمثله مددا!
أحب اللغة العربية بقدر ما أهابها، أحبها بقدر ما أكتمل بها، وبقدر ما ينقصني فيها لأنول شرف إجادتها.
سألت نفسي متى وكيف شعرت بكل هذا الحب تجاهها؟
كيف اندمج حبها مع مسامي، حتى وجدته وقد امتزج امتزاجا تاما مع روحي؟! عرفت منذ اللقاء الأول أن حبها هو إجابتي الصحيحة، أنه هويتي وانتمائي! وحين نجد الإجابة، تغدو الأسئلة بعدها مجرد إضافة للتأريخ!
هل أحببتُ اللغة العربية لأنها كانت لغة "بوليانا" -كما عرفتها-؟ تلك الفتاة التي عرفت سر السعادة، وحاولت نقله لكل من حولها، تأثرت كثيرا في طفولتي بهذا المسلسل الكرتوني الأجنبي، حيث تمت دبلجته للغة العربية.
هل أحببتها عندما نقلَت لي وأنا صغيرة قصة أمير المؤمنين "عمر بن عبد العزيز"؟ فعرفته كما جسده المسلسل الدرامي، وتابعت بشغف فصاحة مفردات عدله وزهده وحكمته!
هل أحببتها لأنها كانت مدعاة لاحتفاء مُدرّساتي بي؟ عندما كنت أصحبها، ولا تضن علي بدقة مخارج حروفها، فترنمت بها بقدر ما أخلصت لها، وهاودتني وأنا أتعثر فيها بقدر ثقلها وإعجازها! حلّقت بي وزهوت بها صوتا ولفظا في الإذاعة المدرسية وفي مسابقات الإلقاء للشعر وللحديث الشريف.
هل أحببتها لأنها اللغة التي أبصرت بها روح أستاذة "نورا"؟ مدرسة مادة الدين في المرحلة الابتدائية، مُدرّستي التي أحبّتني كابنة لها! وأحببتها كنافذة قلبي التي رأيت فيها نور الله عز وجل!
هل أحببتها لأنها جعلت أستاذة "أمل"، مدرسة اللغة العربية في المرحلة الثانوية، تبكي وهي تقرأ نصوصي؟ كانت تقول لي: أني سأكون يوما ما كاتبة، وأنها أول من سيشتري كتبي! فرَوَت روحي، وحفزت بساتيني كي تزهر من أجل عينيها!
هل أحببتها بينما أعيش مع "أمينة" و"سي السيد"و"كمال" وأتنقل معهم بين "السكرية" و"قصر الشوق" و"بين القصرين"؟ هل أحببتها و أنا أسمع "أم كلثوم" تتغنى: (هذه الدنيا كتاب أنت فيه الفكر!)؟هل احببتها وأنا أقرأ "محمود درويش" في " عاشق من فلسطين": (عيونك شوكة في القلب.. توجعني وأعبدها ..وأحميها من الريح.. وأغمدها وراء الليل والأوجاع.. أغمدها فيشعل جرحها ضوء المصابيح.. ويجعل حاضري غدها!)؟
هل أحببتها بين سطور كل ما قرأته من روايات وقصائد وجدت فيها ضالتي وضلالي! إنها لغة الشِّعر، ذلك الكائن الأشْوَس الرّعبان، الماجن الشاجن، إله البلاغة والهذيان! يجوب خنادق النفس الهامدة فينفخ فيها من جنونه وفنونه فتسمو في سحاباته ومجازاته روحا هائمة، لا تعبأ إن ضيعت الوجهة أو اهتدتها، في غوايته طرْف يفتح للصدق دليلا! أقرأ الشعر بحذر بعد أن أجدد وصايا الفقد، إذ لا ضمانة كافية أن أعود كل مرة من بحوره سالمة! فلطالما أفقدتني الوعي ثم أعادته لي مغسولا، مدركا للبعث وللحياة!
هل أحببت اللغة العربية وأنا أستمع لإذاعة القرآن الكريم صباح كل يوم؟ حيث أبي الحبيب يردد معها الآيات ليدفئ حواسنا، ويحجبها عن برودة سماء لازالت تنتظر سطوع الشمس!
إنها اللغة التي أَحَبَّنا بها أبي.. كان يكتب بها خواطره في وصفنا وتشجيعنا، وهي ذاتها اللغة التي صاغ لي بمفرداتها أقوى رسائل عتاب وأشدها وطأة في نفسي -حين بدر مني ما خيب ظنه-إنها أيضا اللغة التي جمعتنا به عندما كان يذاكر لنا قواعدها بأجمل الطرق وأكثرها مرحا وجاذبية!
إنها لغتي التي عرفت بها بارئي، ونبضت بها حبا ورهبا وشجنا، لغة حفظت سر كل المشاعر وفكت طلسم الغليظ منها قبل الرقيق، فارتقت بهم جميعا، لغة ولدت من بطن أرض عرفت العشق والحرب، عرفت البرد والحر، ولم يزدها عطش الصحاري إلا رواء!عن