(كوتي بيه)
****
أتتني هذه المرة أيضا ترتدي جلابيتها الفضفاضة التي أراها بها دوما، فتخطف عيني بنقوشها الخفيفة ولونها القرمزي، تحب ذلك اللون كثيرا، ولا تمل من ارتدائه، هو واللون الأخضر الزرعي، حتى لو اضطرتها الزيارات المفاجئة أحيانا أن ترتدي فوقهما عباءة سوداء؛ تستقبل بها الغرباء.
لطالما كانت تحتضن صخبها وحبها للحياة في باطن قلبها وبين جدران بيتها، فلا يطّلع عليهما إلا القريب العليم، ولا يرى منها البعيد أو الغريب سوى (أمّا زينب) صاحبة الدعوات المستجابة، والحجاب المنسدل، فينعم الكل بمجالستها ولو لدقائق، وهي تمسك بمسبحتها الطويلة، (مُربِّعة) كلتا قدميها على الكنبة، ولا تنفك تستغفر وتذكر الله في كل حين.
تسمع أكثر مما تتكلم، لا تُسهب في الحديث إلا عندما تحكي لنا عن نوادر جدي وصولاته وجولاته في شبابهما، كانت تعرف أننا نهاب صوته العالي، وقامته المهيبة، فكانت تفتح له في قلوبنا نفقا خفيا، دون أن تتورط في الدفاع المباشرعنه، فتُشعرنا بانحيازها له.
معروف عنها أنها ترى أبعد كثيرا مما يرى الآخرون، تقول الخبر قبل حدوثه ولا تتفاوض على احتماليته، كانت تتنبأ بصيغة التقرير والتأكيد، ولا أذكر أنه حينما كان يحدث ما توقعته -كل مرة- أنها كانت تباهي بما لديها من قدرة على الاستبصار، أو عطية الرؤية والاستجلاء! على العكس؛ كانت تمل مجالسة الكبار، وتنتهز أي فرصة لتجلس معنا على الأرض، تتبادل معنا الأحاديث بنبرة طفولية جميلة، أذكر أنها كانت تحب بين الحين والآخر أن تقول لي: (كوتي بيه) وهي الجملة (المتدّلعة) لجملة (اسكتي يا بنت)، تعرف أنها ما إن تلفظها حتى أنفجر في الضحك؛ خاصة أنها تتحين قولها فور إتمامي لجملة ما تحمل قدرا من فذلكة طفلة لم تتجاوز العشر سنوات.
لم أشعر لحظة أن (نينة) تصطنع الطفولة التي تعيشها معنا، كانت تفيض منها فيضا، كبوح مكتوم يخرج للنور باشتياق ولهفة، عبأته بداخلها (تحوّشه) في حصالة الباطن، أو ربما تخفيه عن أعين الذين زفوها وهي لاتزال طفلة في عرف العلوم الحيوية والنفسية، لكنها في عرف علوم اجتماعهم -في مطلع القرن العشرين- كانت تُعتبر عروسا قادرة على الزواج والإنجاب، فاستبدلت طاقة الجري واللعب في شوارع البلد، بجلسة منحنية على كرسي خشبي ذي قوائم صغيرة، تستقبل به (الطابلية) التي تفرد عليها عجينة الفطير والخبز البلدي، حتى أن آلام المخاض فاجأتها في إحدى المرات أثناء وقت الخبيز، فآثرت أن تكتم الألم ريثما تخرج (العيش) من الفرن!
أتخيلها كثيرا وهي تعجن الفطير، أراها وهي تحتضن الدقيق وتقلبه بكفيها الناعمين، كنت أحب ملمس يدي (نينة)، أتحسس عروقها النافرة وما حُفر حولها من تلافيف نقشتها السنوات القاسية على جلدها، تغير العالم من حولها مرارا، شهدت بداية ونهاية الحروب العالمية والباردة، عاصرت النكبة وسقوط الاتحاد السوفيتي، وبداية الهيمنة الرأسمالية، والعولمة الاستهلاكية، حتى أنها شاركت -دون أن تعلم- في دعم سياسة الانفتاح الاقتصادي، وهي تأكل معنا -ما كنا نسميه وقتها- سناكس (الكاراتيه). كنت أحب مراقبتها وهي تأكله مستسيغة طعمه وذوبانه في فمها، دون أن تضطر لوضع تركيبة الأسنان الاصطناعية (الطقم).
عاشت جدتي تحديات مادية ونفسية مهولة، ذاقت فيها ضيق الحال ويسره، تجرعت الغربة عن قريتها لتتنقل مع زوجها وأبنائها بين المحافظات -بحسب ما يقتضي العمل- لفحها نسيم البحر في الأسكندرية، دون أن يتسنى لها استنشاقه كما ينبغي، أيقظتها كثيرا شوارع المطرية الصاخبة، دون أن تنعم بنومة هنيئة كاملة، ولم تمل يوما من الخروج لقضاء حاجة البيت وشراء الخضار، وقد تكون في ذهابها وإيابها استظلت بشجرة العذراء القابعة في حي المطرية منذ آلاف السنوات، لكنها لم تختبر الرواء من ماء البئر المجاور لها.
لم تكن مرارة الغربة أقسى على قلبها من برودة الفقد وقشعريرته، حين أرغمتها الأوبئة في أزمنة الفقر والظلم ونقص المعرفة على توديع صغار لها من أبنائها، فارقوها وهم لازالوا في المهد.
لكن حتى الاحتلال - الذي انجلى أو الذي لازلنا ننتظر جلاءه- والثورة -التي قامت والتي لم تقم- والحروب -التي خضناها والتي كان يجب أن نخوض- وكل ما مر بجدتي على مدار الأعوام، لم يستطع أن يقلل من حبها للحياة، وتقديرها لها!
........................................
كان التلفاز يذيع حفلة، لفتت نظر جدي، فقال بصوت يبالغ في الوقار: (المغنية دي كويسة، اسمها إيه؟)
من البديهي لخطيب مسجد، يقضي معظم وقته في قراءة القرآن وكتب التفسير أن لا يعرف من تغني - حتى لو كانت مطربة مشهورة- لكن ما لم يكن بديهيا بالنسبة لي -حينها- هو أن تشعر (نينة) بالغيرة بعد كل هذه السنوات، وتتمتم بصوت منخفض يكتم غيظها: ( مغنية كويسة برضه، ولا ضحكتها هيا اللي كويسة؟!).
أدرك الآن أن اندهاشي كان ساذجا، فكيف لم أعِ أن هذا شعور طبيعي لسيدة تجاوزت منتصف عقدها الثامن، ولم تتوقف بعد عن وضع الحنة لإخفاء الشعرالأبيض بين خصلاتها الناعمة، كانت تجدل شعرها كل صباح باعتناء كبير، وتتجمل بالكحل الثقيل من المكحلة النحاسية، فتبهت شمس كل يوم، ولا تبهت النظرة اليقظة في عينيها البشوشتين الجميلتين.
مغرمة أنا بكل ما يتعلق ب(نينة) أعشق رائحتها الزكية، لم أكن أستطيع تحديد مصدر تلك الرائحة العطرة بالضبط، لكن أذكر أن أكثر ما طغى عليها هو عبق الصابون النابلسي!
أعشق كيف تسمي بالله، وتصلي على النبي بين كل خطوة وأخرى، وبين كل التفاتة والتي تليها.
قالت لي يوما وهي تعلمني أسرار الفطيرة (المورّقة، اللي طعمها سكر) -بحسب وصفها الجميل- : أن التعامل مع عجينة الفطير، يعلمنا كيف نتعامل مع القرارات الجسيمة، والخطوات الكبيرة، والفترات الانتقالية الصعبة في حياتنا.
في تلك المرحلة من العجين تكون جزيئات الدقيق الجاف مفككة، تبدأ في التماسك عندما نسكب عليها الماء أو(شرش الجبنة القريش)، لكن صب الشرش بكمية كبيرة دون تدريج أو تقليب، يجعل سطح الدقيق يموج فتخدعنا ليونته المؤقتة، بينما لازال باطنه هشا متناثرا، يتأهب لإظهار قسوته بعد القليل من العجن، تماما كما نغتر بسيل المشاعر في بدايته، لذلك يجب أن نصب الشرش بالتدريج ونمزج الخليط برفق واحتواء حتى تصبح العجينة لينة ومتماسكة، وبذلك نتأكد أن بواطننا امتزجت مع فيضها الجديد امتزاجا حقيقيا وكاملا، وذلك لن يكون إلا بالتريث وب(ترييح) العجين من وقت لآخر، (ونقلبها واحنا بنغني ومتفاءلين) فأسمعها وكأنها تدندن بأنفاس قصيرة متقطعة: (عالبحر شاور لي بلمونة ياليل.. آه يا ليل..... يحسبني ياما قليلة العقل مجنونة يا ليل.. آه يا ليل!).
فارقت (نينة) موطن العجين والطين، وهي تتوضأ تأهبا للقاء بارئها، فعجّل لها بالرؤية، وأطلق روحها في رحابه العلية قبل أن تبدأ الصلاة. رحلت بعد وفاة جدي بأقل من شهرين، وبعد رفقة دامت بينهما أكثر من سبعين سنة! فكانت تفيق كل يوم بعد وفاته وهي تصلح فرشة نومها وتقول: (مش هغيب عليك يا حاج هانت).
.
لم يكن ما شعرت به يوم وفاة جدتي حزنا عاديا، ربما بكيت أقل من المتوقع، لكن جسدي عانى لشهور -منذ علمت برحيلها- من آلام قاتلة في أحشائي، أدخلتني المستشفى أحيانا لعدة أيام.
أذكر أول مرة رأيت فيها (نينة) في الحلم، كانت تبشرني بأنها قابلت قريبة لنا متوفاة حديثا، وقالت لي: (طمني حبايبها هيَّ بخير ومبسوطة). بكيت كثيرا في تلك اللحظة التي لمحت فيها (نينة) وهي تبتسم لي ابتسامتها الجميلة العذبة، قلت لها: (وحشتيني قوي يا نينة، وحشتيني، خليكي معايا شوية). لكنها لم تستجب لي يوما، زياراتها في الحلم دائما قصيرة وعابرة.
مرت سنوات طويلة دون أن أرزق حلاوة تلك النفحة الخاطفة التي يهديها لي المولى، حتى أتتني منذ أسبوعين تقريبا، كنت آخذ قيلولة سريعة بعد العمل...........
كانت هذه المرة تبتسم بحذر، بادرتها بالقول: (نينة وحشتيني قوووي، شفتي اللي بيحصل لنا ده؟!)
قالت لي بصوت خفيض واثق: (اقروا بس سورة "العاديات" )، كررتها مرتين، وكانت تنظر لي بنظرة ملؤها الاطمئنان واليقين، بأن فرج الله قادم لا محالة.
*****************************
مقاطع من مشهد كتبته سابقا عن جدتي "زينب"، تذكرتها في #يوم_المرأة وتخيلتها وأنا أعايدها بمناسبته، فتقول لي بشغب: (كوتي بيه).
غادرت جدتي الأرض ولم أكن قد أتممت الثانية عشر من عمري، ولكني أشعر دائما بها كما لو كانت معي، تحيط بي وتلمسني بحضورها وكلماتها وأنفاسها.
إنها الروح التي تستبدل الأماكن لتستوطن المكامن!