أتحسس تلك العصابة على عيني بأنامل مرتعشة، أشعر أنها ليست على عيني فحسب، وإنما على أنفي تكتم أنفاسي العالقة قلقُا للمفاجأه بعد أن ينتزعها عني عامر.
عامر طبيبي وصديقي منذ أعوام كثيرة، وقبل الحادث؛ فعامر كاتب هاوي إلى جانب كونه طبيب عيون بارع، هو من أحضر لي هاتف خاص لفاقدي البصر مجهز ببرامج خاصة، لأكمل عملي في الكتابة بطريقة برايل التي علمني إياها، ووجد لي العمل الإذاعي، كي لا أنعزل عن العالم، منقذي هو، اتخذ مكانًا قصيًا عني فقط حينما أخبرته عن طارق لعام كامل، وعدنا نتحدث حينما ذهب، وأصر أن أجري تلك العملية بعد رفضي طوال الثلاث سنوات منذ ذهاب طارق رُغم نسبة نجاحها الضئيلة لم يكف عن إقناعي، فقدت بصري على إثر اعتداء ابن حارس بنايتي القديمة، الذي كنت أساعده بمصاريف الدراسة، ولا أعلم أنه مدمن، اعتدى علي بالضرب المبرح، بأنحاء جسدي، ورأسي حتى فقدت بصرى، مؤلمة الصدمة أكثر ألم الجسد.
أصر عامر، حتى وافقت، واليوم سوف ينتزع العصابة، ولست متأملة كثيرًا فقد اعتدت ظلمتي
-"كيف صباحك اليوم يا غاليتي؟؟"
-"عامر أنا غاضبة منك، هذه العملية ما آتاني منها سوى آلام مبرحة برأسي"
اقترب مني، وشعرت بأنامله تدور حول رأسي
-"أغلقي فمك الآن يا مودة.. أصبحتِ كتلة من الإحباط أظن لهذا السبب هرب هذا الطارق الغبي"
-"لا تُثر غضبي أكثر "
يتحدث وأشعر يده تدور حول رأسي لنزع العصابة حتى انتهى
-"ببطء الآن يا مودة... ابدئي بفتح عينيك"
داخلي يرتجف هذا يعني أنني أكذب ومازلت أحمل الأمل، وأخشى النتيجة والخيبة من جديد، ودون أن أشعر كانت يدي تشد بقوة على يد عامر، كأني استقي منها بعض القوة، وحركت جفني ببطء لأرى ظلامًا ينقشع رويدًا رويدًا، وشبح لضوء خافت، وظل رجل إلى جانبي، الصورة تتضح تتبعثر المشاعر مختلطة مع الحروف
-"عامر.... كأنني أرى"
حينها رأيت عامر بوضوح أكثر، يقفز لأعلى كطفل صغير، ويخر ساجدًا أمامي، يبكي كطالب أخبروه للتو أنه حصل على درجة الدكتوراه.
عادت حياتي بفرصة جديدة، أسعى للعودة للصحافة، الكتابة شغفي الأروع، أرسل لي عامر إعلانًا لدار نشر وصحيفة سمعت عنها كثيرًا بالآونه الأخيرة، تطلب محررين، و ستصدر مجلة خاصة بها أسبوعيًا إلى جانب الصحيفة الشهرية، لم ينتظر عامر، حدد موعد معهم لأذهب للمقابلة، وكان معي مجموعة من مقالاتي، التي تناقش عادةً مشكلات اجتماعية، كنت قد قصصت شعري ، وغيرت لونه للأحمر القاني، ولبست نظارات، كذلك فقدت خمسة عشركيلوات من وزني، كنت بالفعل مودة أخرى، وتقدمت باسمي الحقيقي الذي قالما استخدمه "وداد"
استقبلتني السكرتيرة بترحاب وأشارت لي أن أدخل لأقابل مدير التحرير، دخلت إليه أغلقت الباب خلفي، واستدرت لتقع عيني عليه لأول مرة، وخطفني شعور يشبه الصفعة ..أعرفه، فقد حفظت يدي ملامحه، وطبع داخل قلبي، وذهني، عالقة رائحة عطره بصدري، هو... أنا على ثقة... هو طارق،
مد يده ليصافحني بابتسامة مرهقة، مددت يدي المرتعشة إليه، هي لمسته لم تنساها أبدًا يدي، يبدو أنه لم يعرفني، نعم لم يعرفني، بهذا القدر كان هو الأعمى، ولست أنا، ثم أتى صوته ليؤكد ظني
-"أهلاً تفضلي أستاذة وداد"
رددت بصوت خافت بالكاد يسمع
-"أهلاً بحضرتك"
-"أنا طارق علوان قرأت بعضًا من مقالاتك، أعجبني أسلوبك للغاية، ويشرفني أن تنضمي لفريق العمل بالمجله وأن ننشر لكِ كتابًا يضم مقالاتك القديمة كذلك"
أولم تلفت ملامحي نظره!!!! ولا مقالاتي!!! فقلت لعل صوتي يفعل فحاولت الضغط على الحروف الهاربة وإظهار صوتي واضحًا
-"أشكرك كثيرًا أستاذ طارق.. يشرفني أن أكون مع الفريق"
ابتسم دون أن يرف له جفن، ثم نظر لي بتمعن فطرقت رأسي أرضًا
-"مودة"
فدق قلبي بشدة لقد عرفنى فأكمل
-"المجله اسمها مودة"
صفعت الحمرة وجهي، إذن يتذكرني، ويسمي المجلة باسمي، لكنني أمامه، ولا يعرفني ما أمره؟؟؟الأسئلة كفيضان غاضب تعصف بداخلي.
فسألته في محاولة لادراك ما يحدث حولي
-"ولِمَ مودة؟؟"
-" أحببتها بكل مشاعري، لكنني كنت مصابًا بعمى وقتي نتيجة صدمة فقدي لوالدي بحادث بذلك الوقت، لكن هي لم تعرف، لم
أخبرها ...هي كذلك كانت لا ترى، خشيت أن ترتعب من فكرة كون كلينا لا يرى، وإلى جانب ذلك، علمت أنني مريض بفشل كلوي، وأحتاج إلى زرع كلي، طريقي كان إلى الهلاك، فتركتها خلفي فأصبح قلبي معتل كذلك، وسافرت وأراد الله لي الشفاء ورد لي بصري، وزرعت كلية وعدت، لكني لا أقوى على العودة إليها، لقد مزقت قلبها، اشتقت إليها كثيرًا، ولعل تلك المجلة، تشفع لي عندها يومًا أرجو منك أن تكتبي قصتي تلك، بأول عدد للمجلة لعله يصل إليها، تعرفين صوتك كأنه صوتها أو هذا جنون الاشتياق"
-"ولم لا تكتبه أنت ؟؟؟"
-"لن أستطع، أشعر بألم يكف يدي عن الكتابة"
اقتربت منه، وارتسمت دهشة على وجهه، لاقترابي المفاجئ، وقلت له هامسة
"رفقي غريمك ينتظر أن يشاغبك من جديد، كم كنت غبيًا، أضعت منا أعوامًا من العشق أيها الأعمى، ها أنا مودتك من جديد"
يتبع،،
*************