في زاويةٍ تتآكلُها عَتَمَةُ الأزمنةِ الهاربةِ من سُورِ الحيّ العتيق، حيثُ تَستَدينُ الحجارةُ الصمتَ من سُباتِ الأبدِ، كانت فاطمة. لم تكن مجرّدَ كهلةٍ من لحمٍ وعظمٍ، كانت نَسْغُ الأرضِ، وريحانةُ أرشيفها الأبديّ.
كلُّ أخدودٍ في كفّها، كُروكيٌّ لأَثرِ قَدَمٍ أَفَلَ، وكلُّ خيطٍ من فضّةِ الشيبِ، مخطوطةٌ عن شتاءاتٍ جَلَدَتْ هذا المَدفَنَ الترابيَّ للأحلامِ المُبَرعَمةِ.
كانت تَرتقي عتبةَ دارها، المائلةَ كعُمرٍ يُوشِكُ على الاِنطواءِ، لتَنفُثَ في مسامعِ الصبيةِ أسطورةَ نبعٍ، انتبذَ عنه الماءُ منذُ عقودٍ من العبثِ الزمنيّ، وكيفَ كان خريرُهُ قُبْلةَ الأرضِ الشاهقةَ، حينَ كانت رِحلَةُ الكوكبِ غضّةً. وتَصِفُ شجرةَ التينِ التي اغتالتها يدُ التّغافُلِ، وكيفَ أطلَقَتْ روحُها صَمتًا مَجْمَرِيًّا، رنَّ في أفئدةِ الزّارعينَ كنبوءةِ جَفافٍ. رأوها هذيانَ الزمنِ الثقيلِ، تُراوِحُ بينَ وَهْمِ الأمسِ وصقيعِ الحاضرِ.
في ضحىً كاذبِ الإشراقِ، أعلنت السلطةُ عن مشروعٍ يَرْمُقُ اجتثاثَ الحيّ جَذرًا، لتَنصيبِ صَرْحٍ من الزّجاجِ الأصمِّ، معزولٍ عن وَجيبِ الرّوحِ. زَغْرَدَتِ الحناجرُ بنِهايةِ الغبارِ واِستفتاحِ الحَداثةِ.
لكنّ فاطمةَ تَحجّرتْ رَفضًا. وَقفتْ كوَتَدٍ مقيم أمامَ الجَرّافاتِ، التي تَنهَشُ قِشرةَ الإسفلتِ الجَديدةِ حولَها، وخَطّتْ بعصاها مَدارًا هلاميًّا في بؤرةِ الشارعِ.
قالتْ بِهمْسٍ، كصدىً خافِتٍ لضَجَرِ المجرّاتِ، لكنّهُ فَتَقَ غَورَ ضجيجِ الآلاتِ: "هنا... ثمّ تَصَمّتْ للحظةٍ كعصرٍ كاملٍ.
رَمقَها المُهندسُ بِسُخريةِ العارفِ، بينما تَكَتّلَ النّاسُ حولَها كجَماعاتِ فُضولٍ أثريّةٍ.
قالتْ وهيَ تَطبعُ عَلامةَ العصا على التّرابِ في تَوَقٍ بَدائيٍّ: هنا، في حَضنِ مِترَينِ فقط... تَدثرَ قَلبُ مَدينَتِنا، الشّرطُ الأزَلِيُّ لدِيمُومَتِها. حِين اقتلعتُمُ النبعَ، شَللتُم عُروقَها. وحينَ اجتَثَثْتُمُ التينةَ، هَشّمتُم ضِلعَ الرّاحةِ فيها. وحينَ تُهدّمونَ هذا الجِذعَ الأخيرَ، تَصطادونَ ذاكرَتَها... والأرضُ، لَعَمري، لا تَقبَلُ سُبَاتَ النّسيانِ.
ضَحِكَ الجميعُ، حتّى أَنسابُها القَريبونَ، رَأوا فيها فَزَعَ شيخوخةٍ مُتأزّمةٍ. أَصدرَ المُهندسُ أمْرَهُ بِالبدءِ الفوريّ.
في القَضْمَةِ الأُولى، لم يَرتَعِشِ الجدارُ. اِنفَجَرَ المَكانُ عُمُودِيًّا.
لم يكن دَوِيَّ احتراقٍ، اِنشِطارُ ماءٍ كان.
تَدَفّقَ نَبعٌ كشلاّلِ غَضبٍ إلهيٍّ من ذاتِ النقطةِ التي خَطّتها فاطمةُ بِعصاها، ماءٌ زُلالٌ يَتَشظّى بِـ قُوّةِ تَذَكُّرٍ، غَطَسَ الجَرّافاتِ في قَرارَةِ الثّواني، واجتاحَ مُتَالِيةَ الشارعِ وبِناءَ الحَداثةِ في هُنَيْهَةٍ.
لم يَعثروا على أيِّ رَمزٍ لفاطمةَ، أو لكَوخِها الهَشِّ.
فقط لَوحٌ خَزَفِيٌّ، مُعَمَّرٌ كتاريخٍ ضائِعٍ، طَفا على زَبَدِ الهَدِيرِ، نُقِشَتْ عليهِ العِبارةُ بخَطٍّ كَهنُوتِيٍّ: غَرَستُ البئرَ بِوَجِيبِ كَفّي. وشَفَرتُ اسمي في لُبِّها. والرُّوحُ، يا سادتي، بَرقٌ سَرمديٌّ... لن يُطفأَ إلا إنْ جَفّتْ مَحَبّةُ الماءِ.





































