لم تكن الشمس قد استوى نورها على قمّة المباني حين خرج عامل النظافة، حاملاً مكنسته كمن يحمل سيفًا ورثه عن أجداده. يمسح بيده على شاربيه ببطء، ويتأمل الشارع الطويل الممتد من باب الجامعة الكبير وحتى الساحة الواسعة حيث تتجمع أقدام الطلبة كأحلامٍ تستيقظ. كان الهواء بارداً، والضوء ينبت بخجل فوق أرصفةٍ تعرف خطواته وتحفظ صوته إذا همس، وكأنها تعامله كضيفٍ كريم أو صديق قديم.
لم يكن يحتاج إلى من يعلّمه كيف يبتسم؛ فابتسامته شيء وُلد معه.
شيء يشبه رغيف خبزٍ ساخن تُقدّمه أمٌّ فقيرة لأطفالها دون أن تشكو.
شيء يشبه قمرًا بدائياً، خجولاً، لكنّه حاضر.
رفع رأسه إلى البوابة الحديدية التي بدأت تُفتح ببطء، وجرّ مكنسته على الأرض، فصدر عنها صوتٌ يشبه زفيراً متعباً. وقال وهو ينظر إلى موظف الأمن:
– صباح الخير ياصديقي… يبدو أننا سنشهد يومًا طويلاً.
ضحك موظف الأمن:
– أنت تقول هذا كل يوم، مع أنّ أيامك أغلبها أطول من أيامي.
هزّ العامل رأسه، وقال تلك الجملة التي اعتاد أن يردّدها:
– من عاش بقلبٍ صافٍ… لم تثقله الساعات.
في الجهة الأخرى من الجامعة، كان الدكتور يفتح باب سيارته الفاخرة بعصبية.
يمسك حقيبته بعنف، ويرمي نظرة باردة على الساحة التي بدت له كما دائمًا كعالمٍ لا يستحقه.
فتح باب قسم الأدب والفلسفة، واستقبلته السكرتيرة بابتسامة:
– صباح الخير دكتور .
قال دون أن يبادلها النظرة.
أين ملفات البحوث التي طلبتها؟ قلت لك أمس أن أريدها جاهزة على مكتبي. هل الأمر معقد لهذه الدرجة؟
ارتبكت السكرتيرة:
– اعذرني، الكهرباء انقطعت مساءً ولم….
قاطعها:
– أعذار… الجامعة مليئة بالأعذار، والناس هنا يبرعون في شيء واحد: التبرير.
تكوّرت ابتسامتها وتلاشت، ثم أعطته الملفات وهي تهمس:
– تفضل يا دكتور.
دخل الدكتور مكتبه وهو يشعر أنّ الكراسي التي يجلس عليها البشر دونه في النَسَب، وأن جدران المكان أصغر من قامته الفكرية. كان يعيش في وهمٍ متين:
"أنه عالمٌ كبير… وأن الآخرين مجرد هوامش".
في الساحة، كان العامل يُنهي تنظيف إحدى الزوايا حين توقّف طالب على كرسي متحرك بجانبه. شاباً هادئاً يحب الملاحظات الصغيرة ويستمتع بالإنصات لهُ دائمًا.
قال وهو ينظر إلى العامل:
– أنت تستيقظ قبلي كل يوم يا عم … ألا تتعب؟
– أتعب؟!
ردّ وهو يضحك بصوتٍ مكتوم:
– يا بني، نحن نتعب حين لا نحب ما نفعل. أمّا عندما يحب المرء عمله… فالعمل يصبح رفيقًا لا عبئًا.
قال الطالب:
– عجيبة هذه الفلسفة… المفروض أن تُدرَّس في المدرجات!
ابتسم بعمق، نظرة فيها حكمة فطرية:
– ليس كل ما يُدرّس في المدرجات يا ولدي نافعاً… ولا كل ما يجري على ألسنة البسطاء هينًا.
هزّ الطالب رأسه، وأحس بشيء يطرق صدره.ذلك الشيء الذي يشعر به المرء عندما يلتقي إنسانًا نادرًا، لا يملك شهاداتٍ كثيرة… لكنه يملك روحًا كاملة.
في تمام التاسعة، وقف الدكتور أمام قاعة المحاضرات، وضرب بيده على الطاولة.
كان الطلبة ينتظرون كلماته، لا حبًا فيه، بل خوفًا منه.
قال بصوته الحاد:
– يا جماعة… لماذا هذا الصخب؟! لستم في سوق. هل من الصعب أن يتصرف المرء كإنسان متحضر ولو لمرة واحدة؟
همس طالب في الخلف:
– ليس كل من لبس بدلة صار متحضراً!
أدار الدكتور نظره أصابه الغيظ:
– ماذا قلت؟! تكلم… لا تختبئ خلف الآخرين.
وقف الطالب بتردد:
– قلت إن… إن الإنسان يُعرف بأخلاقه لا بثيابه.
ضحك الدكتور بسخرية :
– وهل أنت قادر على تعريف الأخلاق؟! لا، طبعًا. لأنك لم تفتح كتابًا حقيقيًا في حياتك.
ساد الصمت.
هذا الصمت الذي يشبه صفعة علنية.
أما الطالب فجلس وهو يشعر بالحرج يغرس مخالبه في صدره.
في تلك اللحظة بالذات، كان العامل يمرّ أمام باب القاعة، يحاول ألا يُصدر صوتاً بمكنسته.
لكن الدكتور لمحَه.
وتغيّرت ملامحه فجأة كما لو وجد فرصة ذهبية ليظهر سلطته أمام الطلبة.
صرخ:
– أنت! يا أخ… يا منظّف! لماذا تمر من هنا وقت المحاضرة؟! ألا تعرف النظام؟!
وقف ثابتًا، لم ترتجف يده، ولم تتلاشى ابتسامته.
قال بكل هدوء:
– لا تقلق يا دكتور… كنت سأمرّ بصمت. لن أزعجكم.
ضحك الدكتور بصوتٍ عالٍ أمام الطلبة:
– "لن أزعجكم"! وهل تملك من العلم ما يزعج؟!
يا رجل… لو جلس المرء يتعلم ألف سنة… لن يصل إلى ما وصلنا إليه!
تبادل الطلبة نظراتٍ صامتة؛ بعضهم شعر بالخجل من طرف واحد فقط.
أجاب العامل:
– يا دكتور… العلم شيء جميل… لكنه مثل السكين:
إن لم يُمسكه صاحبه بأخلاق، جرح نفسه قبل غيره.
ساد الهدوء.
حتى الهواء بدا وكأنه توقف ليستمع.
كانت جملة بسيطة، بلا تنميق، لكنها أصابت شيئًا عميقًا في صدور الحاضرين.
أما الدكتور… فكأن أحدهم صفعَ كبرياءه.
اقترب منه وقال ببرود:
– اسمع… لا تتفلسف علينا. تابع تنظيفك ولا تتجاوز حدّك.
أومأ العامل برأسه وابتعد وهو يهمس:
– حدود الإنسان ليست وظيفته يا دكتور… بل فعله وقلبه.
انتهت المحاضرة لكن الطلبة خرجوا بوجهٍ مختلف.
أحدهم قال لزميله:
– كلام العم أعمق من كل ما قاله الدكتور اليوم.
– طبيعي… فالأول يتحدث من قلبه، والثاني يتحدث من فوق كرسي.
ضحكا بصوتٍ خافت وسارا بعيدًا.
في اليوم التالي، شهدت الجامعة حدثاً غير مألوف.
توقفت سيارة الإسعاف أمام القسم ، ونزل منها مسعفون يركضون نحو مكتب الدكتور .
اجتمع الطلبة كالعادة، وأطل العامل من بعيد، لكنه لم يقترب.
كان في داخله حدس… أن شيئًا وقع، وأن الله يفتح أبواب العبرة حين يشاء.
بعد دقائق، خرج أحد المسعفين وهو يهز رأسه قائلاً:
– ضغطه ارتفع بشدة… فقد السيطرة على وعيه. نحتاج نقله فوراً.
في المشفى، جلس على السرير، يراقب الأجهزة حوله.
لم يكن الخوف واضحاً عليه، لكن شيئاً آخر كان يطلّ من عينيه:
انكسارٌ لم يعرفه من قبل.
دخل الطبيب وقال:
– ينبغي عليك أن تخفف القلق والانفعال يا دكتور . الصراخ، التوتر، الغضب… كلها تقتلك ببطء.
أغلق عينيه، وبدأ يستعيد كلام العامل:
“العلم مثل السكين… إن لم يُمسكه صاحبه بأخلاق… جرح نفسه.”
كانت الكلمة الأخيرة –"نفسه"– ترن في رأسه كجرسٍ ثقيل.
بعد خروجه من المشفى، عاد إلى الجامعة في الصباح.
وكانت أول خطوة له في الساحة تجعله يرى شيئًا غريبًا:
العامل… جالس على الأرض يصلح أحد صنابير المياه القديمة، والطلبة حوله يتحدثون إليه.
كانوا ينصتون له كمن يستمع إلى شيخٍ حكيم.
وهو بدوره يضحك ويتحدث ببساطة لا تعرف التكلّف.
توقف الدكتور أمام المشهد.
لم يعرف لماذا أحسّ بوخزةٍ في صدره.
اقترب ببطء…
ولمّا رآه العامل وقف احتراماً:
– سلامتك يا دكتور… حمداً لله على عودتك.
ارتبك الدكتور.
هذه المرّة… لم يجد السخرية التي اعتاد ارتداءها كدرع.
قال بصوتٍ خافت:
– شكرًا… كيف… كيف عرفت؟
ابتسم العامل:
– من ملامحك… الإنسان يعرف من ينكسر، حتى لو كان عالمًا كبيرًا.
شعر الدكتور بمرارةٍ حقيقية.
لم يكن يريد أن ينهار أمام الطلبة، لكنه أحس أن قناع الكبرياء بات يضغط على وجهه حتى لم يعد يستطيع التنفس.
قال وهو ينظر إلى الأرض:
– هل يمكن أن… نتحدث وحدنا؟
هز العامل رأسه ثم سار معه جانبًا.
وقف الدكتور لحظة صامتاً.
ثم قال ببطء:
– أنا… ربما كنتُ قاسيًا عليك.
ابتسم كعادته:
– لم تكن قاسيًا عليّ يا دكتور… بل على نفسك.
اتسعت عينا الدكتور.
كانت الكلمات كأنها تفتح نافذة داخل صدره.
أكمل العامل:
– الناس يا دكتور… لا تُقاس بما تحفظه من الكتب… بل بما يُثمر في قلوبهم من تواضع. العلم… إن لم يُمهّد للقلب طريقًا… كان مثل نبتة بلا جذور.
تنفّس الدكتور بعمق.
للمرة الأولى يشعر أن أحداً يراه… لا كأستاذ، ولا كصاحب شهادة… بل كإنسان.
قال بصوت منخفض:
– هل… تسامحني؟
ضحك ضحكة دافئة:
– يا دكتور… من يحمل مكنسة ليس في قلبه مكان للضغائن.
سكت الدكتور قليلاً، ثم قال:
– هل تعرف؟
أنت اليوم… علّمتني درسًا لم أتعلمه في الجامعات كلها.
ربّت العامل على كتفه وقال:
– العلم يا دكتور… حين لا يُهذّب النفس… يصير عبئًا.
الإنسان… هو الخلاصة، لا الكتب.
وفي أول محاضرة بعد ذلك، وقف الدكتور أمام الطلبة.
كان وجهه مختلفًا.
قال بصوت هادئ:
– قبل أن نبدأ المحاضرة اليوم… أريد أن أعتذر منكم.
كنتُ أظن أن العلم يمنحني قيمة… ثم اكتشفت أن القيمة الحقيقية تُولد من الداخل… من الأخلاق.
نظر إلى الباب حيث وقف العامل بمكنسته.
أكمل:
– اليوم… تعلّمت من رجلٍ بسيط ما لم تعلّمني إياه الجامعات.
تعلمت أنّ العلم بلا أخلاق… كائنا هشًا، لا روح له.
صفّق الطلبة.
لكن التصفيق لم يكن للدكتور… بل للعامل الذي ابتسم كعادته.
حين هدأ كل شيء، جلس الدكتور وحده يتأمل السماء.
ولأول مرة… شعر أن حياته تحتاج أن تُعاد كتابتها من جديد.
شعر بأن كل علمٍ يفتقد التواضع… ليس إلا قشرة خاوية.
وأن الرجل الذي يقف ساعات تحت الشمس حاملاً مكنسة… يمتلك من الحكمة ما لا تمنحه آلاف الكتب.
أغلق عينه وقال لنفسه:
– “ما أغرب البشر… قد يضيئون الدنيا بعلمهم… ويظلمون أنفسهم بقلوبهم.”





































