لم أكن أدرك يومًا أن للدقيقة ثمنًا، وأن للوقت سعرًا لا يُعرض في أسواق الناس ولا يعلّق على لافتات المحال، حتى جاءت تلك الأيام التي قررت فيها ـ بلا إعلان ولا ضجيج ـ أن أعود إلى نفسي.
استيقظتُ في صباح يومٍ بدا للناس يومًا عاديًّا، لكنه بدا لي مختلفًا. ليس لأنه عطلة رسمية، ولا لأنه يومٌ بلا التزامات، بل لأنه فجرٌ أحسست فيه أن شيئًا ما ينقصني، شيئًا لا يُشترى، ولا يُسترد، ولا يُعوّض. كانت الغرفة ساكنة على غير عادتها، والهواء يتسلّل من النافذة بخفة، كأنه يريد أن يقول لي: استيقظ.. هناك شيء ينتظرك.
جلست على حافة السرير، ولم يكن في رأسي شيء واضح. فقط ذلك الثقل الذي يجيء حين يدرك المرء أنه أهدر من العمر أكثر مما يجب. فتحت هاتفي، ولم أجد شيئًا يستحق، كعادته كل صباح. إعلانات مكررة، منشورات بلا معنى، وآراء متصارعة لا تزيد المرء إلا غبارًا داخليًا. كان يمكنني أن أستمر في التحديق ليسرق مني ساعة أو اثنتين، لكني أغلقت الهاتف قبل أن يبتلعني.
—لم أكن أعلم أني بذلك بدأت أول خطوة.
خرجت إلى الصالة، وكان الصمت فيها أكثر كثافة من صمت الغرفة. جلست على الكرسي القريب من النافذة. الشمس لم ترتفع بعد، وتلك اللحظات بين الليل والنهار كانت دائمًا تحمل شيئًا من النقاء، لكنها كانت تمرّ عليّ كأي لحظة عابرة، لا ألتفت لها إلا مصادفة. أما في ذلك الصباح، فقد شعرت كأن الزمن يضع يده على كتفي ويقول: انتبه.
بدأت أسأل نفسي سؤالًا بدا بسيطًا لكنه كان أشبه بمفتاحٍ لبابٍ لم أفتحه من قبل:
لماذا تتصرف كأنك تملك وقتًا لا ينتهي؟
لم أجد جوابًا.
أو ربما وجدته، لكني لم أكن أريد الاعتراف به.
كل ما كنت أملكه من أيام مضت، لم يكن سوى سلسلة طويلة من التأجيلات:
سأبدأ لاحقًا، أكتب لاحقًا، أقرأ لاحقًا، أتعلم لاحقًا، أتقرب إلى الله لاحقًا…
حتى صار “لاحقًا” هو القيد الذي ربط خطواتي كلها.
في ذلك الصباح أخبرت نفسي جملة لم أتصورها يومًا تخرج مني:
“هذه ليست عطلة و أيام فراغ… هذا وقتي الحقيقي، وحياتي الحقيقية، ولو ضاعت ضاع كل شيء.”
وضعت الماء على النار لأعدّ قهوتي، ووقفت أراقب البخار يصعد ببطء. لأول مرة أدركت أن تلك الدقيقة التي أنتظر فيها غليان الماء، يمكن أن تكون بداية عُمرٍ آخر، لم أمس الهاتف، لم أشتت نفسي. اكتفيت بالمراقبة. الغريب أن دقيقة واحدة من الصمت كانت مليئة أكثر من ساعات كثيرة قضيتها أبحث عن معنى لحياتي.
بعد أن انتهيت من شرب القهوة خرجت إلى الشارع. الهواء كان باردًا، لكنه لم يكن مزعجًا. شعرت أنه ينعش روحي بطريقة لم أعهدها. الناس يمشون على عجلٍ كما يفعلون دائمًا. كلٌ يحمل همّه، وربما يحملون أيضًا شيئًا يشبه ما أحمله: رغبة بأن يعيش الواحد منهم يومًا واحدًا مختلفًا… ولو لم يعترف بذلك.
سرت بلا هدف محدد، فقط أريد أن أجرّب كيف يبدو العالم حين أُبطئ خطواتي. كنت دائمًا أهرب من نفسي بالانشغال، أصنع ضجيجًا حولي كي لا أسمع الصوت الذي يأتي من داخلي. لكني في ذلك اليوم كنت مستعدًا لمواجهته.
لمحت رجلًا عجوزًا واقفًا أمام صيدلية، يحدّق في علبة دواء كأنه يتردد إن كان سيشتريها أم لا. مشيت بجانبه، ورأيته يضع العلبة ويخرج أخرى ويكرر الأمر. فهمت أنه يجاهد بين حاجته للدواء وبين ثمنه. شعرت بشيء يضيق في صدري. كنت أريد أن أساعده، لكني لم أعرف كيف أفعل ذلك دون أن أجرحه. تقدّمت نحوه وسألته:
—هل تحتاج مساعدة؟
نظر إليّ وفي عينيه دهشة خفيفة، ثم ابتسم ابتسامة مُتعَبة وقال:
—لا أحد يحتاج مساعدة، نحن فقط نحتاج وقتًا أطول لنعيش قليلًا.
كانت الجملة كالصاعقة، ضربت شيئًا داخلي لم أكن أعرف أنه موجود.
شكرته ومضيت، لكن صوته ظل يتردد في رأسي.
نحتاج وقتًا أطول…
وهل نملك السيطرة على الوقت أصلًا؟
رجعت إلى البيت. وقفت عند باب غرفتي. شعرت أن المكان يختزن سنوات كاملة من حياتي، سنواتٍ عشتها بلا وعي. فتحت باب الخزانة، فأخرجت الأوراق التي كتبتها قبل سنوات. كنت أكتب كثيرًا، ثم أتوقف، ثم أبدأ، ثم أترك. لا شيء مكتمل. كل شيء نصفه الأول مكتوب ونصفه الآخر معلّق.
جلست على الأرض، وبدأت أقرأ. كانت كلماتي القديمة تحرجني. ليس لأنها سيئة، بل لأنها تشبهني في ذلك الزمن الذي لم يكن يعرف كيف يعيش. كل جملة كنت أكتبها كانت تحاول أن تكون بداية لحياة جديدة… لكنها ظلت مجرد محاولة.
سألت نفسي:
ماذا لو أعطيت كل جملة من هذه وقتًا حقيقيًا؟ ماذا لو لم أهرب؟
لم أجب.
لكن شيئًا في داخلي كان ينهض ببطء، كأنه كان ينتظر هذه اللحظة.
في المساء خرجت إلى الشرفة. الجو كان هادئًا، والمدينة بدأت تخفّ أصواتها شيئًا فشيئًا. نظرت إلى السماء، ولا أعرف لماذا شعرت أنها أقرب مما كانت عليه دائمًا. كأن الله يقول لي:
"كل دقيقة تهدرها ستسأل عنها."
لم يكن في الكلام تهديد، بل تذكير.
أو ربما صحوة.
أدركت أن وقت الفراغ ليس وقتًا للراحة كما يفهمه الناس، بل هو اختبار: هل نعرف كيف نستخدم وقتًا لا يراقبنا فيه أحد؟
هل نستطيع أن نعمل حين لا يطلب منا أحد أن نفعل ذلك؟
هل نعرف قيمة دقيقة لا يقيسها الراتب ولا يراقبها المدير؟
جلست ، وبدأت أكتب. لم أكتب رواية ولا مقالا ولا حتى فكرة مرتبّة. كتبت فقط ما أشعر به. الكلمات جاءت من تلقاء نفسها، كأنها كانت تبحث عني طوال هذه السنين. لم أرفع رأسي من الورقة، ومع كل سطر، كنت أشعر كأنني أستعيد جزءًا من روحي المفقودة. كنت أكشف طبقات الغبار التي غطّت قلبي طوال تلك السنوات. كانت الكتابة أشبه بمرآة صادقة لا تجامل، لكنها أيضًا لا تخون.
بعد ساعتين، توقفت. شعرت بإرهاق غريب، لكنه إرهاق جميل، كإرهاق شخص عاد من معركة وانتصر فيها لأول مرة. نظرت إلى ما كتبت، وكان شعورًا يشبه الوقوف أمام جدار بُني ببطء وإصرار… جدار لا يحميك من العالم، بل يحميك من غفلتك.
حين انتهيت، شعرت وكأن شيئًا يتحرك في داخلي… كأن جزءًا منّي كان معطّلًا فعاد يعمل. كانت الكتابة دائمًا تعني لي شيئًا، لكني لم أكن أقدّرها. كنت أتركها للوقت الذي أظنه فارغًا، دون أن أعرف أنها هي التي كانت قادرة على ملء فراغي.
وقفت أمام المرآة. تأملت وجهي. رأيت فيه شحوب السنوات التي ضاعت. ورغم ذلك رأيت في عيني شيئًا مختلفًا: رغبة لم أشعر بها منذ وقت طويل… رغبة في أن أعيش.
في اليوم التالي استيقظت قبل الفجر. غسلت وجهي، وصليت، وجلست على السجادة بعد الصلاة دون أن أتحرك. لأول مرة منذ سنين شعرت أن قلبي عاد إلى مكانه الصحيح. كان هناك هدوء يشبه النور. هدوء لا يأتي من الخارج، بل من الداخل.
فتحت المصحف وقرأت سورة قصيرة. قرأت ببطء، بوعي. كل كلمة كانت كأنها تُخاطبني أنا وحدي. لم أختم السورة بسرعة كما أفعل عادة. كنت أقرأ لأفهم، لا لأُنهي.
شعرت أن الدقيقة التي أقضيها مع الله أطول وأجمل من ساعات كثيرة قضيتها أمام شاشة الهاتف.
خرجت للعمل. الطريق كان مزدحمًا كعادته. السيارات تتزاحم، والناس تتسابق، وكل شيء يجري بسرعة لم أفهمها يومًا. لكني كنت مختلفًا. لم أكن أسابق أحدًا. كنت فقط أراقب.
أدركت حينها أن المشكلة ليست في الطريق، بل في داخلي.
كنت أركض بلا هدف، حتى حين أصل.
أما الآن فقد تعلمت شيئًا لم أكن أعرفه:
ليس المهم أن تصل بسرعة… المهم أن تعرف لماذا تسير.
عدت إلى البيت بعد الظهر. بدلًا من أن أرمي نفسي على السرير كما اعتدت، جلست على الطاولة وفتحت دفتري من جديد. وبدأت أكتب. لم أنتظر أن “يأتي الإلهام”، ولم أترك الظروف تتحكم بي. كتبت لأن الكتابة ليست هواية… بل طريقة لأسمع صوتي.
مرت ثلاث ساعات دون أن أشعر.
وبينما أضع القلم، أدركت أن ثلاث ساعات ربما تكون أقيم من ثلاث سنوات عشتها بلا وعي.
في المساء، عدت إلى الشرفة، التفت إلى السماء وقلت لنفسي:
“إن للوقت وللزمن سعرًا… وأنا تأخرت كثيرًا عن دفع فاتورتي.”
كنت أعلم أني لن أُغيّر حياتي كلها في يومين، لكني كنت أعلم أيضًا أن البداية الحقيقية لا تأتي بصوتٍ عالٍ… بل تأتي بدقيقة واحدة فقط يتخذ فيها المرء قرارًا لا رجعة عنه.
منذ ذلك اليوم، تغير شيئًا في داخلي. لم أعد أنظر للعطلة كفترة للغياب عن الحياة، بل كفرصة للحضور. لم أعد أستسلم لفراغ الأيام، بل أحول كل دقيقة إلى خطوة… ولو كانت صغيرة.
أدركت أن دقيقة واحدة يمكن أن تعيد بناء الروح، ويمكن أن تضيف لعُمرك وزنًا ليس في الجسد، بل في النظر، في الفهم، في الوعي.
وعرفت ـ أخيرًا ـ أن الزمن لا ينتظر أحدًا، لكنه دائمًا يمنح فرصة لمن يتقدم نحوه.
وأنا… قررت ألا أتأخر بعد الآن.





































