في إحدى القرى النائية، التي اختفت بين طيّات الجبال كما تختفي النجوم في نور الصباح، كانت الحياة تسير على وتيرة الزمن الهادئ. وكان فيها رجل يُدعى عبد الرحمن بن ثابت، لم يكن يملك من حطام الدنيا إلا قوت يومه، لكنه امتلك ما لم يملكه الأغنياء: قلبًا كالغيمة العطشاء، ويدًا كالنهر الجاري، وسجيّة طُبعت على المروءة كما تُطبع الروح على الجسد.
لم يكن عبد الرحمن يبحث عن منصب أو جاه، بل كانت شجاعته ومروءته هي سلطانه، وصدقه هو ثروته. وكان الناس يرون فيه ذلك الرجل الذي إذا وعد وفى، وإذا أعان أتم، وإذا قال صدق. كانت سمعته أوسع من كل ميراث، وأثمن من كل كنز.
في إحدى ليالي الشتاء القاسية، انقضّت عاصفة هوجاء كأنها جيش من جنود الظلام، تزأر كالأسود، وتزمجر كالأمواج العاتية. هبت الرياح فاقتلعت الأشجار من جذورها، وأمطرت السماء سيولاً جارفة كأنها دموع السماء على بؤس الأرض. وفي خضم هذا الهرج، سمع عبد الرحمن صوت انهيار مدوٍّ، تبعه صراخ مروّع تمزقه أنات الخوف. كان صوتًا يأتي من بيت جاره الأرمل، الذي فقد زوجته في العام الماضي، وتركته مع ثلاثة أطفال صغار كالفراخ المهشمة.
لم يتردد عبد الرحمن لحظة. خرج إلى العاصمة متحديًا البرد القارس، فرأى منظرًا يكسر القلب: جدار البيت قد انهار كقلب المفجوع، والسقف مال كأمل المنكسر، والرجل يحاول أن يقف كالسنديانة الأصيلة، ولكن عينيه كانتا تقولان ما لا تستطيع شفتاه النطق به. والأطفال يرتعشون من البرد والخوف، كالورود ذبلت فجأة تحت وطأة الصقيع.
اجتمع أهل القرية، تظهر على وجوههم آثار الحيرة والتردد. كان كل منهم يحمل عذرًا: فلان مشغول بإصلاح سقف بيته، وفلان يخشى على أطفاله من المرض، وثالث يخشى أن يُستنزف ماله. كانت النفوس متزاحمة بين الرحمة والخوف، بين الواجب والأنانية. تحدثوا طويلاً، ولكن كلماتهم كانت كالفقاعات تذهب مع الريح، لا فعل فيها ولا عطاء.
أما عبد الرحمن، فلم يكن من أولئك الذين ينتظرون اجتماعات القرى أو قرارات المشايخ. لقد كان يعلم أن المروءة لا تعرف التأجيل، والرحمة لا تنتظر التخطيط. عاد إلى بيته المتواضع، وأحضر قديم الأخشاب التي كان يدّخرها لشتاء قادم، وجمع من هنا وهناك بقايا الأقمشة والجلود. ثم حمل كل ذلك على ظهره، وكأنه يحمل هموم العالم أجمع.
عاد إلى بيت جاره المنكوب، وبدأ في العمل بيدين لا تعرفان الكلل. كان يضع الخشبة فوق الخشبة، ويشد الحبل بعد الحبل، وكأنه يبني وطناً جديداً لذلك الأرمل وأطفاله. كانت عيناه تلمعان بإصرار نادر، وكأنه يتحدى القدر نفسه. لم يكن يبني جدراناً من الطين فحسب، بل كان يبني الأمل في نفوس من حوله.
وفي خضم هذا المشهد، كان الأطفال يراقبون عبد الرحمن بعيون واسعة مليئة بالدهشة. كانوا يرون في هذا الرجل العملاق ليس فقط منقذهم من البرد، بل منقذهم من الخوف واليأس. اقتربوا منه شيئًا فشيئًا، حتى صاروا يساعدونه في حمل ما خف من الأخشاب، أو يناورونه ببعض المسامير. كانت هذه المساعدة البسيطة براءة تواجه القسوة، وأملاً يتحدى اليأس.
عندما اكتمل البناء، لم يكتف عبد الرحمن بذلك. نظر إلى الأطفال يرتعشون من البرد، فعلم أن الجدران وحدها لا تدفئ القلوب. أخذهم إلى بيته، ذلك البيت المتواضع الذي لا يتسع لأكثر من سرير وبعض المتعلقات البسيطة. هناك، أشعل النيران، حتى صار الدفء يملأ المكان، وكأنه يملأ القلوب بالطمأنينة. ثم قدم لهم ما كان يدّخره من طعام، فكانت لقيمات قليلة، لكنها كانت كالوليمة في أعينهم.
جلس عبد الرحمن مع الرجل يتحدثان. قال الرجل بصوت مكسور: "لقد أنقذتنا يا عبد الرحمن، كيف يمكن أن نكافئك؟"
نظر عبد الرحمن إليه نظرة عميقة، ثم قال بصوته الهادئ الذي يشبه خرير النهر: "أخي، المروءة ليست مالاً يُمنح، ولا صنيعة تنتظر المقابل. المروءة هي أن ترى نفسك في غيرك، فإذا جاع جعت، وإذا عري عريت، المروءة هي ذلك القلب الذي ينبض بالآخرين قبل نفسه، وهي تلك اليد التي تمتد دون انتظار جزاء أو شكور."
ثم أردف: "إن الدنيا زائلة، ولكن ما نزرعه في قلوب الناس يبقى. قد تموت الأجساد، ولكن تبقى الأعمال خالدة في ذاكرة الزمن."
عندما بزغ الفجر، خرج الناس من بيوتهم ليجدوا بيت الأرمل قد عُمّر من جديد. لم يكن البناء متقنًا كقصور الملوك، لكنه كان متينًا كقلب من بناه. رأوا الأطفال يلعبون حول البيت، وكأن الليلة الماضية لم تكن إلا كابوسًا مزعجًا انتهى ببزوغ الشمس.
سأل الناس عبد الرحمن: "كيف استطعت أن تفعل هذا وحدك؟"
فأجابهم ببساطة: "لم أكن وحدي، كان معي إيماني بواجبي، وكان معي يقيني بأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً."
ومنذ ذلك اليوم، تغيرت القرية كلها. أصبح الناس يقتدون بعبد الرحمن، ليس في بناء البيوت فقط، بل في بناء القلوب. صاروا يتسابقون إلى الخير كما يتسابقون إلى الماء في اليوم القائظ. إذا مرض أحدهم، وجد من يعوده. إذا احتاج أحدهم، وجد من يعينه. إذا ضاع لأحدهم شيء، وجد الجميع يبحثون عنه.
لم يعد الكرم والمروءة مجرد كلمة تقال، بل أصبحت واقعًا يعيشه الناس. صار العطاء في قريتهم عادة لا تزول، وكالنهر الذي لا ينضب، يغذي الأرض والعطاشى.
وهكذا، نرى أن المروءة ليست مجرد فضيلة، بل هي قوة تغير المجتمعات، وتُحيي القلوب الميتة. عبد الرحمن بن ثابت لم يكن يملك مالاً ولا جاهًا، لكنه امتلك قلبًا ينبض بالإنسانية، ويدًا تمتد بالخير. علم الناس أن المروءة هي أن ترى الإنسان في كل إنسان، وأن تمد يد العون دون انتظار المقابل.
تبقى المروءة ذلك النور الذي يضيء الظلام، وذلك الدفء الذي يذيب الجليد. هي الكنز الحقيقي الذي لا يفنى، والذكرى التي تخلد في قلوب الناس، حتى بعد أن يرحل الأجساد.





































