وَمَلَأْتُ أَوْعِيَةَ الزَّمَانِ بِمَجْدِنَا
حَتَّى ارْتَوَى التَّارِيخُ مِنْ مَاءِ اللُّغَةِ
وَجَعَلْتُ مِنْ حَجَرِ الجِبَالِ دَفَاتِرًا
تَلَتِ العُصُورُ بِهَا عَظِيمَ حِكَايَتِي
وَلَقَدْ بَحَثْتُ عَنِ الخُلُودِ بِحُرْقَةٍ
فَوَجَدْتُهُ فِي السُّورِ.. لا فِي العُشْبَةِ
وَلَقَدْ سَعَيْتُ لِكَيْ أَنَالَ لِخُلْدِنَا
سَبَبًا يَقِينِي مِنْ زَوَالِ المَيْتَةِ
طَفْتُ فِي كُلِّ البِلادِ مُغَامِرًا
وَرَكِبْتُ ظَهْرَ اليَمِّ صَوْبَ الغَايَةِ
وَقَطَعْتُ بَحْرَ الظُّلْمَاتِ بِعَزْمَةٍ
مَا فَلَّهَا خَوْفٌ وَطُولُ مَسَافَةِ
حَتَّى بَلَغْتُ الشَّطَّ لَمْ يَنْزِلْ بِهِ
بَشَرٌ سِوَايَ بِفُلْكِهِ وَسَفِينَتِي
وَلَقِيتُ شَيْخًا قَدْ تَجَاوَزَ عُمْرُهُ
جِيلَ الرِّجَالِ فَقَالَ لِي فِي رَأْفَةِ:
عَبَثًا تُحَاوِلُ يَا بُنَيَّ خُلُودَنَا
كُتِبَ الفَنَاءُ عَلَى جَمِيعِ الخِلْقَةِ
لا تُتْعِبَنَّ النَّفْسَ تَطْلُبُ مَطْلَبًا
صَعْبًا فَكُلُّ حَيٍّ سَائِرٌ لِلتُّرْبَةِ
لَكِنَّنِي كَابَرْتُ رَغْمَ نَصِيحَةٍ
وَغَطَسْتُ فِي لُجَجِ المِيَاهِ بِهِمَّتِي
قَلَعْتُ نَبْتَ الخُلْدِ أَحْسَبُ أَنَّنِي
قَدْ حُزْتُ سِرَّ الكَوْنِ مِلْءَ قَبْضَتِي
وَعَقَدْتُ عَزْمِي لِلرُّجُوعِ مُظَفَّرًا
كَيْ يَشْرَبَ الشُّيُوخُ مَاءَ فُتُوَّةِ
لَكِنَّ عَيْنَ الدَّهْرِ تَرْقُبُ غَفْلَتِي
وَالحَظُّ يَعْثُرُ فِي طَرِيقِ العَوْدَةِ
وَالحَيَّةُ الرَّقْطَاءُ تَسْرِقُ حُلْمَنَا
فِي لَحْظَةٍ سَلَبَتْ جَمِيعَ غَنِيمَتِي
فَصَرَخْتُ رَبَّ العَرْشِ كَيْفَ ظَلَمْتَنِي
وَتَرَكْتَنِي وَحْدِي أُجَرْجِرُ خَيْبَتِي؟
وَبَكَيْتُ خِلِّي إِذْ تَوَسَّدَ قَبْرَهُ
حُزْناً أَذَابَ القَلْبَ قَبْلَ الدَّمْعَةِ
يَا صَاحِبِي لَوْ كَانَ يُفْدَى مَيِّتٌ
لَوَهَبْتُ عُمْرِي كَيْ تَعُودَ لِصُحْبَتِي
وَرَجَعْتُ مَكْسُورَ الفُؤَادِ لِمَوْطِنِي
أَمْشِي الهُوَيْنَا فِي ثِيَابِ الحَسْرَةِ
حَتَّى بَدَتْ "أُورُوكُ" تَلْمَعُ فِي المَدَى
وَالسُّورُ يَعْلُو فِي شُمُوخِ الهَامَةِ
فَوَقَفْتُ مَشْدُوهًا أَمَامَ بِنَائِهَا
وَكَأَنَّنِي أَبْصَرْتُ نُورَ الحِكْمَةِ
هَذَا الذِي شَيَّدْتُ يَبْقَى شَامِخًا
يَتَحَدَّثُ التَّارِيخُ عَنْهُ بِعِزَّةِ
فَانْظُرْ إِلَى الآجُرِّ كَيْفَ صَقَلْتُهُ
وَنَقَشْتُ فِيهِ مَلَاحِمِي وَإِرَادَتِي
وَلْتَصْعَدِ السُّورَ العَظِيمَ وَتَمْشِ فِي
أَرْجَائِهِ لِتَرَى بَدِيعَ الصَّنْعَةِ
أَدْرَكْتُ أَنَّ الذِّكْرَ عُمْرٌ ثَانِيٌ
وَالنَّاسُ تَفْنَى مِثْلَ زَرْعِ الغَابَةِ
أَمَّا البِنَاءُ الحُرُّ يَبْقَى شَاهِدًا
يَرْوِي لِكُلِّ النَّاسِ سِفْرَ بُطُولَتِي
أَنَا مَنْ بَنَيْتُ، أَنَا كَتَبْتُ حِكَايَتِي
فَوْقَ الرَّقِيمِ لِكَيْ تَكُونَ وَصِيَّتِي:
لا خُلْدَ فِي جَسَدٍ يَمُوتُ وَيَنْتَهِي
بَلْ فِي فَعَالِكَ يَا عَظِيمَ الهِمَّةِ
فَانْظُرْ لِمَعْبَدِنا وَسَاحِرِ حُسْنِهِ
مُتَلَأْلِئًا كَالنَّجْمِ وَسْطَ العُتْمَةِ
وَالنَّخْلُ فِي البُسْتَانِ يَهْمِسُ لِلمَدَى
سِرَّ الحَيَاةِ بِكُلِّ سَعْفَةِ نَخْلَةِ
يَا قَارِئَ الأَلْوَاحِ بَعْدَ رَحِيلِنَا
وَمُقَلِّبَ التَّارِيخِ بَحْثًا عَنْ عِظَةِ
إِنِّي طَوَيْتُ الأَرْضَ ثُمَّ خَبَأْتُهَا
بَيْنَ السُّطُورِ فَصِرْتُ سَيِّدَ قِصَّتِي
لا شَيْءَ يَهْزِمُ مَوْتَنَا غَيْرُ الصَّدَى
فَاجْعَلْ صَدَاكَ يَرِنُّ مِثْلَ الصَّرْخَةِ
وَابْنِ مِنَ الأَعْمَالِ مَا يَبْقَى لَهُ
أَثَرٌ يَدُومُ عَلَى مَدَارِ الأَزْمِنَةِ
فَأَنَا "كلْكَامِشُ" لَمْ أَعُدْ بِعُشَيْبَةٍ
لَكِنْ رَجَعْتُ بِحِكْمَةٍ وَبِفِكْرَةِ
إِنَّ الخُلُودَ صَنِيعَةُ الإِنْسَانِ إِنْ
أَحْيَا الضَّمِيرَ وَعَاشَ دُونَ مَذَمَّةِ
فَاقْرَأْ كِتَابِي وَاتَّخِذْهُ مَنَارَةً
وَاحْفِظْ لِأَهْلِ العِلْمِ حَقَّ مَوَدَّةِ
قَدْ مَاتَ جِسْمِي مُنْذُ دَهْرٍ قَدْ مَضَى
وَبَقِيتُ حَيًّا فِي سُطُورِ الكَلِمَةِ






































