مي الحبيبة،
أجل وصلتني تحيتكِ الأخيرة من تحت القصف، وبأخرى أحييكِ من ذات المكان _من تحت القصف_ أما بعد...
حالنا يُرثى له لكننا ما زلنا بخير، لم أكن أتخيل أننا سنصلُ يوماً لحالٍ كهذا، حالٌ تكالبت علينا فيه الأغلال، واتحدت علينا القوى العظمى وأبت إلا أن تدثرنا تحت ثرى هذا الوطن الذي تنكر الجميع عنه وأشاحوا بوجوههم عن ضحاياه، لربما كما ذكرتِ اللعبة أكبر منهم هم أيضاً، رقعة اللعبة تتسع وتلتهم المزيد من البيادق ولم يعد الوزير يثق بما يُمليه عليه الملك، فاحترق الشطرنج بين جدالِ هدنةٍ ومراوغة وقف إطلاق النار!
بتاريخ الثامن عشر من مارس هذا العام استيقظتُ وزوجي قبل منبه السحور فقد كان هناك منبهٌ أعظم، استيقظنا على أصوات القذائف وال (كواد كابتر) تحاصر المكان فبيت أهل زوجي ليس بالبعيد عن مستشفى الشفاء! صحيح أننا اعتدنا مثل هذه الأصوات لكنها غادرتنا فترة ظننا أننا سنحظى بشيء من الأمان فيها، ارتعدت أوصالنا وهرعنا ننقل أطفالنا إلى (كوريدور البيت) حيث النقطة الأكثر أماناً وبدأت بعدها تنهال علينا القذائف وطلقات الرصاص... من هول الانفجارات ظننا أن الأصوات حولنا، تهشم ما تبقى من زجاج للنوافذ واحترق ما نُشر من غسيل على شرفات المنزل، لم نكن نعلم مكان القصف لكننا قدّرنا أنه في الجوار، وكانت الطامة حينما اكتشفنا أن الطابق الخامس من العمارة قد قصفته قذائف المدفعية، وخزانات المياه قد نالت نصيبها من الدمار فانهارت خائرة القوى تقذف ما في حوزتها من مياه يشتهيها كل ظمآن، أما الطابق الأول فقد خرج ساكنوه إلى حيثُ (بيت الدرج) _تحت السلم_ إثر شظايا ورصاص قد طال غرف الأولاد! هنيهاتٍ قليلة واجتمع السكان في منزلنا يستمعون لمذيع قناة الجزيرة وهو يُصرّح باقتحام الجيش الإسرائيلي لمستشفى الشفاء! عزمنا على الخروج لعلنا نهرب بأطفالنا من لعنة القصف ولكن ما السبيل للهرب وال (كواد كابتر) تتربص بمدخل العمارة تطلق الرصاص على أي جسم يتحرك، أكثر ما كنا نخشاه في تلك اللحظة التهجير؛ فالجيش يُهَجِّر كل من يلقي القبض عليه آمناً في المكان الذي يقتحمونه، وكيف نبقى في المنزل وقد قُصفت خزانات المياه وشُلّت الحركة؟!
بعد تفكيرٍ عميقٍ لكنه لحظي يتناسب مع حربنا لأجل الحياة، انطلقنا بسرعة الضوء نحمل أطفالنا وحقيبة ظهر لكل فرد فيها مستلزماته الشخصية وبعض الطعام، انطلقنا نحو السور الخلفي للعمارة، وضعنا سلم وتناوبنا على صعوده مع الآخرين لينقلنا إلى عمارة الجيران ومن ثم نسحب السلم لينقلنا إلى عمارة مجاورة وهكذا تخطينا خطر تلك الطائرة اللعينة ثم على حين غرة منها وبتمتمات ( وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون) خرجنا من إحدى العمارات نجري بأطفالنا وبكل ما أوتينا من قوة، نجري فوق الحطام والزجاج المتناثر، نجري وأزيز الرصاص يلاحقنا، والقذائف تدوي هنا وهناك، بيوتٌ تتحول إلى رماد بلمح البصر، نجري ونلهث؛ فكيف لصائمٍ أن يحتمل كل تلك المسافة وذلك الرعب، ولا مجال لدينا للراحة فثانيةُ راحة قد تكلفك حياتك! عندما خرجنا من منطقة الخطر تنفسنا الصعداء وحظينا من جديد بلقب نازحين _كلٌ عند ذويه_ ...
هكذا أصبحت حياتنا يا صديقتي، هروبٌ من أجل الحياة! فعلاً اللعبة أكبر من الجميع؛ فقد تنحى الوطن جانباً والأقصى بات مشطوباً من لائحة الأهداف، أما الشعب فمغلوبٌ على أمره، يكافح من أجل لقمة العيش، شغلوا فكره بالجوع ، ومنحوه خيارين للحياة إما نازحٌ في وطنه وإما جائع يكتوي بغلاء الأسعار وقلة الموارد...
قالوا أنهم سيرسلون مساعدات إلى أهل الشمال تقلل من خطر المجاعة لكنهم لم يخبروكم أنها خلقت حرباً أهلية في الداخل؛ فيوم دخول المساعدات هو يوم حرب بين عموم الشعب، المساعدات حولت الشعب إلى لصوص ومسلحين وقطاع طرق، فإذا حالفك الحظ ووصلت إلى حيث يرقد الجيش وتُرمى المساعدات وسلمت من رصاص اليهود فإنك لن تسلم من طعنة هنا أو هناك وسرقة كبونتك منك!
قالوا سنحل هذه الإشكالية ونرسل المساعدات عبر طائرات تلقيها مظلات على بيوت المواطنين، لكنهم لم يخبروكم أنها أحياناً تنزل دون أن تفتح المظلة فتتحول من مساعدة إلى قنبلة موقوتة، ولم يخبروكم أنها أحياناً تضل الطريق فتنزل في عمق البحر وينزل وراءها الجوعى واللصوص على حد سواء؛ فيغرق من يغرق ويبقى الأقوى على قيد الحياة، لم يخبروكم أن المواطنين أصبحوا يأخذونها ليبيعونها بأثمان باهظة لمواطنين آخرين، والكارثة الكبرى أنهم لم يخبروكم أن تلك الوجبات بحاجة إلى مترجم برفقتها، الحق يقال أنها وجبة متكاملة لفرد واحد تحتوي وجبة رئيسية، ظرف من مستخلص فواكه لعمل عصير، ظرف قهوة، ظرف ملح وآخر سكر، محرمة مجففة وأخرى مبللة، فوار معادل لأملاح الجسم، قطعة خبز، قطة حلوى قد تكون بسكويت أو شيكولاتة، ظرف مربى وظرف زبدة فستق، أقول ما يرضى الله أن واضع هذه الوجبة متخصص تغذية لكنه نسي أنها مرسلة لأُناس (غلابة) مع احترامي لوافر الطبقة المتعلمة هنا، لكننا نطالب بمترجم كحق من حقوقنا كبشر!
خلاصة القول أن المساعدات فتحت حرب أخرى علينا، حرب نحن فيها الحاكم والجلاد!
لم ينسحب الاحتلال بعد ولم تردنا الأخبار حول حالة بيوتنا، هل سنعود لنجدها تأوينا أم أنها ستخون عشرتنا وتنهار لأنها لسوء حظنا جاءت فوق نفقٍ ما!
تركونا نحتضر، يُراهنون على بقائنا وقد هُلكنا ولا يدرون، لا ندري لأجل ماذا نحارب، لأجل الأقصى أم الخبز؟! لأجل الوطن أم الحُكم؟! لم يعد الخوف من الموت يلوكنا بعدما لفظتنا الحياة! لم تعد نشوة العيْش تعترينا، لم نعد هلوعين نسعى لاغتنام نعيم الدنيا، لم يعد لدينا أفق لمستقبلٍ أفضل، مصيرنا مجهول! لا نعلم متى سيملّون من اللعب بنا وينتقلون لمستوى أعلى في رقعة أخرى من العالم! أو لعلهم ينضجون ويكفّون عن اللعب ويتركوننا _نحن الدمى_ وشأننا!
قبل أن أنسى، قد راقني جداً غلاف روايتك القديمة الجديدة (قوة الأناناس)، غلاف شهي يشي برواية ماتعة تمنيت لو أتاح لي وقتي سابقا فرصة إتمام قراءتها، هنيئاً لكِ صديقتي بإصدارها الحديث وأمنياتي لكِ بمزيد من الألق...
سأكتب لكِ كلما أُتيخت لي الفرصة، أتمنى أن تجدي طريقة للنشر على صفحتي، لا أريدها تتلاشى كما روحي! لا أريد الشهرة، فقط أريدُ الخلاص والبقية من هذه الحرب الظالمة والعودة لروتيني اليومي.
لله درنا يارفيقة، والسلامُ ختام...