۱۹۰۱م
بُوسْطَة الْحٌبِّ
"اللحظة التي تتلاقي فيها الأرواح"
-------------------------
الإهداء
إلي كل من آمن بي ، وحفزني ، وكان داعمًا وسندًا ، إلي كل قلب أحبني ، وكل عين آمنت بي ، إلي كل من كانوًا قبس من نورًا وسط ظلام اليأس ، والشك ، وإلى عائلتي الحبيبة ، أختي فؤاد أمي ، التي شاركتني أحلامي ، وآلامي ، وإلى أساتذتي الأفاضل ، الذين فتحوا لي أبواب المعرفة. وإلى أصدقائي الأعزاء ، الذين كانوا لي عائلة ثانية ، أتمنى أن يكون هذا العمل بداية مشوار طويل من الإنجازات التي نفتخر بها جميعاً
كلمة:
وصلتني رسالة وكانت كالتالي:
(يلفتني في رسائلك الأدبية تميزها بما يُطلق عليه "التعرّي النفسي" حيث تعبرين عن مشاعرك بِصدقٍ ووضوحٍ دون خجلٍ أو خوفٍ، ؛ ممّا يُضفي على النصّ مصداقيةً كبيرةً ويؤثر في القارئِ تأثيرًا عميقًا) .
ولذلك فأنا أريد سؤالك بخصوص تلك النقطة على وجه التحديد: (ألا تخشين أن يربط القارئ بين شخصك الحقيقي وبين مشاعرك فيظنك بهذا الضعف؟ ، أريد أن أعرف أبعاد استفادتك من التعري النفسي في الكتابة) .
أجيبها وأقول :
"أشكركِ أولاً علي هذا التعليق اللطيف ، فهو يعني الكثير لي في الحقيقة ، أعتقد أن التعري النفسي هو رحلة يتطلب من القارئ أن يتحلي بالشجاعة ، والتعبير عن الذات بصدق ، لكنني عندما أكتب أسعي لأن يكون هناك تجربة عميقة للقارئ ، أريد أن تلمسه الكلمات ليشاركني هذه الرحلة وكأنها رحلته أيضًا ، هناك خط رفيع بين الكشف عن الذات وبين الضعف ، فالكتابة بالنسبة إلي هي فرصة للنمو والتطور. قد أستوحي بعض المشاعر من تجاربي الشخصية، وقد أضيف إليها عناصر خيالية لخلق قصة أكثر عمقًا ، وقد لا ببساطة لأنها من الممكن ألا تكون مشاعري أنا ، وهذا هو المبتغي أن أصل إلى القارئ وأترك بصمة في قلبه" .
"رسائل تتأرجح بين الأمل ، واليأس ، الحب ، والألم ، الحلم ، والواقع ، من أعماق الذات ، ووسيلة للتعبيرعن الذات ، والتواصل مع العالم الداخلي تتناول هذه الرسائل مجموعة متنوعة من خلال سلسلة من الرسائل الموجهة إلى "صاحب السريرة" ، نستكشف جوانب مختلفة من تجارب إنسانية، بدءًا من أحاسيس الحب ، والخسارة ، وصولًا إلى البحث عن الهوية ، والمعنى ، والذات. أسلط الضوء على الصراعات الداخلية والتحديات التي تواجه "نبع السر" صراعات داخلية عاصفة ، وتكشف عن تحديات الحياة اليومية بجرأة ، وصراحة ، تغوص بك في أعماق مشاعرها المتناقضة لتكشف لك عن عالم من الأحاسيس التي قد تكون قريبة من قلبك تتحول الحروف إلى مشاعر، والكلمات إلى قصص تلامس أعماق الروح ، تبحث عن الإجابات على الأسئلة الوجودية التي تشغلنا جميعًا"
عزيزي صاحب السريرة:
استوحشتك ....... وبت ألوذ بالفرار بحثًا عنك.
أدركت كمْ سأظل وحيدة ، وفهمت حينها أن لا ملجأ لي من نفسي سوي نفسي ، أجل يممكني صنع نفس تحتوي الذات ، وأخطاءه ، تسعده وتضحكه ، تدخل السرور علي فؤاده بأشياء تحبها النفس وتستكين بها.
لا أعلم كيف أبوح عنه ، ولا أجد من أبوح له.
أدركت ببشاعة كمْ كنت متوهمة للقرب.
لا أحد سيظل يسمع دون نقد ، أو تعديل . لا يوجد مرء سيستمع دون أن تتغير بداخله.
لا أحبذ هذا الإدراك ، كمْ أكرهه ، وأكره سذاجتي.
فؤادي يا فؤادي لا تحزن عزيزي مررنا بالكثير ، لن أقسو مرة أخري.
لا تقلق من اليوم سأحتويك ، بكل حنو يمكنني أن أحيطك به.
ربما أطلق عليك اسمًا . ما رأيك؟
اممم، ليكن "صاحب السريرة" .
من نبع السر
۱۰ يناير ۱۹۰۱م
عزيزي صاحب السريرة:
لا أنتمي لهنا ، هذا ليس بمكاني ، ستساءل عزيزي ، وأين مكانك؟
. سأخبرك مجددًا إنه ليس بمكاني ، ولا أنتمي لهنا
إني أنتمي حيث تهدأ نفسي ، وتتجلل ضحكات طفولتي الإرجاء ، أنتمي حيث حضن دافئ يحتويني ، كلمات حانية ، أيضًا أجدني حينما تبرق بعيني الحياة ، ولكنني هنا منهكة ، منطفئة عيني ، ونفسي ، وفؤادي ينبض ، ولكنه يؤلمني حين تصحبه التنهيدة.
نبع السر
۱٥ يناير۱۹۰۱م
عزيزي صاحب السريرة:
أتخيل بيتي محاوطًا بأزهار بنفسجية ، مملوءًا بضحكات أطفالنا أنا وهو.
يومًا ما سأزرع حديقتي الصغيرة بمسك الليل ، أنا وإياه ذاك الخرف.
نحتسي الشاي ، وقت الغروب ، ويلتف حولنا أطفالنا يلهون ، وكلمات ماجدة الرومي منبعثة من راديو ذو تراث قديم إبتعته لحبي له ، تضيف كلماتها سحرًا للحظات أمسيتنا هذه.
وتنمو الأزهار ، وننمو معها بحب ، وود ، وترابط منبثق من مرور الأيام.
أحب ذلك التجمع ، لأنه من المحبب لفؤادي أن يمكن الملاذ جمعتنا.
متحمسة لخوض هذه التجربة ، وأترقب موعد هذه اللحظة التي ستجمعنا ، وبينا الألفة ، بعد أعوام من البحث ، ستزول حينما ندرك وعي وصوب الإختيار.
بكل حبي وودي.
نبع السر
۱٧يناير ۱۹۰۱م
عزيزي صاحب السريرة:
أكتب لك، لعلي أشعر براحة صوب مغادرة هذه الكلمات من حلقي المرير، وإن تعثرت مرات ، وأصابت الوصف مرة. ثقل الكون كله موضوع على فؤادي ، وأمسيت لا أشعر بشيء سوى نفس الألم ، وصعوبة إخراج ما في جعبتي. لا أعلم متى سيزول هذا الألم ، وكيف سينتهي؟
لكن بداخلي يقين بالتحرر من كل شيء وأغدو أحلق مع الطيور، ولن أشعر حينها بشيء سوى الهواء المرتطم بجسدي ، يذكرني بأنني حرة. متحررة من ألمي، وثقلي. أود أن أصمت وتجاهد نفسي مرة أخرى ، ولكن هذه المرة أجاهد لنفسي فقط. أمسك بسيف معاركي ، وأغزو ثأرًا لنفسي.
لا أعلم هل سأتحرر من ألمي، وثقلي ، أم سأظل حبيسته، وأتلقى خسارة المعركة ، أم لا. أين تكمن السكينة؟ ما زالت مجهولة، أسير لوحدي أبحث أين سأجدها. لعل كلماتي هذه بداية لطريق أسلكه، وأجد به السكينة ، والتحرر.
بكل أمل في الغد كتبت.
نبع السر
۲۰ يناير۱۹۰۱م
عزيزي صاحب السريرة:
لا تزال الذكرى تراودني حينما أغلق عيناي مستعدة للنوم. تحت سقف الغرفة الواسعة، تلوح في مخيلتي الذكرى.
لم أكن موهومة ، بقدر ما كان الشخص المقابل جبانًا لا يقوى على المحاربة ، ولا يمتلك شجاعة الصراحة.
لم تعد تبعثرني تذبذب المشاعر، ما بين تناقض الجبروت ذاك ، ولكنني قررت عدم الإكتراث للأمر، ولك.
الفؤاد مشبع بحبك ، كسابق عهده ، ولكني لم أعد أنا المتلهفة ، الشغوفة بحبك.
يحكم حبك عرش فؤادي ، لكنني تركت زمام عهدك فلا أهتم ، أو أبحث ، أو أنتظرك تحديدًا. أهيم بك عشقًا ، ولكني اخترت نفسي.
إنها تستحق أن تمتلئ حبًا لا تبعثه أنت لها ، حبًا لا يعتمد على وجودك ، نابع من حنايا فؤاد قد أحبك.
نبع السر
۲۳ يناير۱۹۰۱م
عزيزي صاحب السريرة:
بت لا أعرف ، أري غير الذي أراه ، وأعرفه ، وكأنني كنت عمياء ثم أبصرت. ولكنها مقتت البصر حين عاد إليها. إنه لمؤلم أن تشعر بأنك ساذج ، ومخدوع يسهل علي الظاهر خداعك. أشعر بسحابة سوداء فوق رأسي ، لا تلبث أن تنقشع.
أشعر بالتوقف من حولي لبرهة ، فيضيق صدري حتي توشك نياطه بالإنفجار ، إن الألم لا يبارحني، يسكن داخلي ويأبى أن يغادر. كيف يمكن للقلب أن ينبض بثقة مرة أخري ، دون أن يخشى الألم؟
أشعر أنني عالقة هنا بين الألم ، والخوف من الأمل . لازالت ذاكرتي ترمي بي داخل دوامة الماضي لتجعلني شاهدة عليها ختي لا أخطئ المرة القادمة ، غارقة بين دوامته أحاول العوم ، ولكني لا أري الشاطيء لأرسو.
نبع السر
۳۰ يناير۱۹۰۱م
عزيزي صاحب السريرة:
مسكن ، كل ما أبتلعه هو مسكن يسكن كلماتي ، أحلامي ، طموحي... أخذه من يديهما ، أو أبتلعه بمفردي.
لا هما يتركانني أحلق عاليًا ، ولا يساعداني على نمو أجنحتي حتى أقوى على الطيران. ألمس أحلامًا قُدِّرَت أن تُرسم بحبر على أوراق ، ولكنها شُوِّهَت بدموع القيود ، قيود التقاليد ، وعدم التفاهم. أبذل كل يوم جهدًا ، وتتساقط أوراقي كزهرة رُوِيت بدموع القهر.
قصهما لإجنحتي مرارًا يعيقني عن الطيران في سماء الحرية ، وأعانق ما حلمت به بزهو.
ويَتَسلل الأمل من بين أصابعي كـالرمال التي تذروها الرياح ، فتنتثر الأحلام في مهب الريح، وتصبح هباءً منثورًا، والقيود تزداد ثقلًا فتعتصرني كسابقه بمرور الأيام. لكنني أراقب النفق حتى يشع نور الطريق ، والأمل مجددًا.
نبع السر
۲ فبراير۱۹۰۱م
: عزيزي صاحب السريرة
"انبعث صوت الألحان بالغرفة ، وتلتها كلمات فرقة زمن"
علقت برأسي هذه الكلمات:
بطلّنا سوا
وبطّل الهوى
بيجي ع سوا
وانخلقت مشكلة
الحقيقة كانت أننا لم نعد مثلما كنا من قبل ، ماتت لهفة اللقاء ، وربكة النظرة ، وحُشَاشَةُ القَلْبِ ، حتى اندثر كل شيء. غدوت غائبًا من حلمي كما في حياتي ، أراك تواسيني في منامي كما اعتدت قدومك فيه. كان حلمًا ، لكنه كان يملأ حياتي بالأمل والألوان ، يبعث في نفسي غرور أنثى ، وفرحة طفلة ، لم تترك في الظلمة تستوحش وحدتها ، بل رافقها منتشلًا إياها.
كيف يمكن أن يتحول ما كان يملأ قلبينا إلى هذا الصمت الكبير؟
ولكني سأترك حبي كجزء من ماضٍ جميل ، جزء من قصة لم تكتمل. وسأظل أحاول أن أمضي قدمًا ، لكن القلب لا يلبث أن يتذكر، فينقلب السحر على الساحر.
نبع السر
٥ فبراير۱۹۰۱م
عزيزي صاحب السريرة:
الحب ليس عادلاً ، فهو متفاوت بقدره. أحيانًا يحيي المرء بقلب مأسور بالحٌب بأكمله ، وأحيانًا يبقى محتجزًا في ركن صغير، كأنقاض حصن حب مهجور. لا يحكم العدل حبًا ، إنما ألم غائر أو جمال نافذ ، لا تتسعنا الأراضي في لحظات فرحه، بل نختبئ في الكهوف تحت ظلال حزنه. الحب متغير، والقلب مٌتقلب. نشهد قصص حكايات ، دمج وفرق بينهما بحب ، أو قلب كيفما أراد.
حٌبه عندها كان لا يضاهيه حب آخر، حينما قهرها أبقيته في ركن صغير في حنايا فؤادها ، لا يطلع عليه أحد سوى مصباحها. العدل يكشف لنا أن ميزانه قد تتأرجح كفتيه ، وبات البعض يبغض الحب لأنه مغامرة لا يعرف كيف ستنتهي.
نبع السر
۸ فبراير۱۹۰۱م
عزيزي صاحب السريرة:
للحب وهج وردي نراه من بعيد ، يشبه تلك الأضواء الجميلة التي تجذبنا إليها دون تردد. ولكن ، حين نقترب ، نجد أنفسنا محاطين بلهيب يلتهم كل شيء حوله. كيف يمكن لهذا الحب أن يكون منارًا ، ودليلاً للحياة ، وفي نفس الوقت يعمي بصيرتنا ويغمرنا في الظلام؟
وحده الحب يمتلك قدرة رؤية ما نريد أن نراه ، وتتهاوى الحقائق في طيات شعوره. لكن، يجب أن نتساءل: هل هذا هو الحب الحقيقي؟
الحب يجب أن يكون نوره قويًا ، يضيء من جميع جوانبه الحقيقة دون أن يغمرها الظلام. فـالحب يجب أن يقترن بصدق المشاعر، وحس الدقة ، وثقة الوجود.
نبع السر
۱۳ يناير۱۹۰۱م
عزيزي صاحب السريرة:
هذا ليس بذاك، فلما نقع في الخطأ ذاته ، وبأوان متفاوتة؟ يغفر الفؤاد المذلات وينسى ، ولا أدري كيف ينسى.
يدفعنا الفؤاد لتكرار الأخطاء نفسها مرارًا ، وتكرارًا، ونعيش نفس اللحظات المؤلمة مرة بعد أخرى ، كأن الفؤاد لا يفهم الدرس جيدًا. هل يمكن أن يكون التكرار بآمال صنعها العقل؟ فغدا الفؤاد مالكًا للغفران ، والنسيان، لكنه غريب يجعلنا نؤمن بأن هناك شيئًا يستحق المثابرة لأجله ، والحقيقة أنه لا شيء يستحق.
ربما يكون الفؤاد أضعف من أن يحتفظ بالمرارة ، وأقوى من أن يتخلى. فتقبل الحقيقة ، والوقوف أمامها ، ومطالعتها بعينين ثابتتين ، لا تقهرهما خيبة أمل ، هي قوة تحتاج للكثير من التجارب حتى يحظى بهذا الثبات. كأنها دائرة ملعونة لا تقوى أقدامنا على الوطء خارجها. كأنه يمتلك ذاكرة مؤقتة "كالسمكة" لا تحتفظ إلا باللحظات الجميلة. كيف يمكنه أن ينسى المذلات ، ويتجاهل الآلام؟ أهو الفؤاد ونقاؤه الذي يعمي بصيرتنا؟ أم هي تلك الأحلام التي نرسمها في أذهاننا؟
ربما يكون لأنه يزرع فينا الأمل ، ويمنحنا قدرة التسامح. في كل مرة نغفر فيها ، نترك جزءًا من أنفسنا خلفنا ، يحمل من الألم الكثير، لكن من الآن لا مزيد من الأخطاء.
نبع السر
۱٧ فبراير ۱۹۰۱م
عزيزي صاحب السريرة:
قرأت ذات مرة لأحلام مستغانمي فبتُ يقظةً طوال الليلِ أفكرُ، ويُصاحبُني أرقٌ أفسد راحةَ روحي.
."أُقَلِّبُ أجفاني فلا الليلُ ينجلي ، ولا النومُ يأتيني ، ولا أنتَ تقرُبُ"
أخبرتكَ من قبل أنني "بِتُ أيضاً مستيقظةً بليلةٍ شتويةٍ باردةٍ أخرى ، وطيفُكَ يُدفئُ فؤادي ويُنيرُه" مالي لا أراكَ الآن في منامي ، تاركاً إيّاي بين سوادِ الليلِ الكالحِ وحدي؟
وطيفُكَ لا يزورُني كما كان من ذي قبل ، تَلاشَيْتَ من حياتي ، وغَبْتَ عن أنظاري ، ثمّ ما لبثَ طيفُكَ أنْ انْقَشَعَ من لياليّ ، تَلاشى كانَ في مهبِّ الريحِ ، كَسَرَابٍ يلوحُ في الأفقِ ، غيابُكَ هكذا جرحٌ في حنايا صدري لا يكادُ أنْ يندملَ حتى ينزفَ مجدداً. جزءٌ مني غائبٌ ، وروحِي ليست كاملةً ، فهناك فراغٌ كبيرٌ في عمقِ روحي لا يمتلئُ إلاّ بوجودِكَ.
أصبحتْ الليالي باردةً كوحشةِ الشعورِ، يفيضُ الشوقُ من أطرافي، مظلمةً روحي، ثقيلةً بأحزاني، وأشعرُ وكأنّ نبضاتِ قلبي قد تَباطأتْ، حتى كادتْ أنْ تتوقفَ عنِ الخفقانِ.
أحنُّ للحظاتِ القليلةِ التي تزورُني بها ، وتُشرقُ فيها عليَّ من عالمِ الأحلامِ ، وهميةً كانتْ أم مؤقتةً ، ولكنها مطمئنةٌ ، فَهيَ وإن كانتْ وهميةً ، إلاّ أنّها تُنعِشُ القلبَ وتُؤجِّجُ نيرانَ حبِّكَ ، فالبعدُ لا يُطفئُ جذوةَ الحبِّ الحقيقيِّ.
نبع السر
۲٧ فبراير ۱۹۰۱م
عزيزي صاحب السريرة:
يقول شمس التبريزي: "البشر يميلون للإستخفاف بما لا يمكنهم فهمه".
لذا، ليس من الغريب أن يستخفّ أحدهم بما أشعر به ، أو عانيته ، أو امتحنت به. كـمشاعر تتقاطع في أعماقنا ، ونعيش معها في صراع مستمر. قد يرون السطح فقط، ويستهينون بما نخبئه في قلوبنا من جراح وخيبات ، أو حتى أفراح وانتصارات. عندما تغمرنا الأحزان ، وتثقلنا الهموم ، وتمطر عيوننا دموعًا حارقة، نجد أنفسنا في حاجة لمن يفهمنا حقًا. ولهذ ا، عندما سُئل جلال الدين الرومي: "نراك تقرأ وتكتب كثيرًا ، فماذا عرفت؟" فرد قائلاً: "عرفت حدودي".
في تلك الحدود ، تكمن قوتنا وضعفنا، أملنا ويأسنا ، حبنا وكرهنا. هي الحدود التي نعيش فيها يوميًا ، نكافح لنعبرها ونتخطاها ، لكننا نعلم في أعماقنا أنها ما يجعلنا بشرًا ، وإن أخبرنا الجميع بأن تسوية الأمور، ومحاولة نسيانها ستكون فارقة ، ستجعلنا أفضل ، سيبقى الأمر كما هو ، لا يُنسى مهما تناسينا ، أو ادّعينا.
وأنا هنا أخبرك: وإن تناسيتِ ، كيف ستنسى النفس؟ بماذا سيغطي ظهري العاري؟ كيف أسكن آلام طفلتي الداخلية؟
من الضرورة أن أقنعها ، فهي شرسة ، عنيدة ، بقوة زائفة تقف تبغي الحجة في صمود زائل. قد أشعر بأنني أسيرة في دوامة لا نهاية لها ، حيث أتوه بين رغباتي ، وآمالي ، وأحلامي ، وبين الواقع الذي يفرض علينا تحدياته.
السبيل الوحيد لتحقيق السلام الداخلي محرومة منه منذ زمن ، إن أبحّ به أودّ الحصول عليه، فإني عاق. وإن حاولتُ الشحاذة ، فبنظر المجتمع إني طاغية. نخجل من البوح بما يدور في أعماقنا ، ويبتلعني صمتي المرير، وتأكلني الكلمات من أعماقي تبغي الخروج ، وأبقى في كلتا الحالتين عاقًا.
نبع السر
۱مارس۱۹۰۱م
عزيزي صاحب السريرة:
تموهت وسط رغباتي بالظهور، ونيل الحب ، كانت رغبة ملحة بالإندثار، التواري والولادة من جديد ، أعيش في ضباب كثيف ، أفتقد نفسي الداخلية ، نسيتها ، أجل نسيت نفسي فمنذ زمن ، وأنا قد قررت إندثارها بعدما تحديدًا لا أعلم بعد ماذا ، ولكني أعلم إني دفنتها لسبب للآن ينبشب في روحي مؤنبًا ، فلا أنا أتذكرها ، ولا أحب هكذا ، تداخلت الشيم ببعضها وامتزجت فيصعب عليا معرفتها ، ولا أستطيع أن أميز ملامح تلك الطفلة البريئة.
ربما هو التغيير الذي طرأ عليّ ، أو ربما هو العالم الذي تغير من حولي ، أو غيرني أجد نفسي في صراع دائم بين رغباتي في أن أكون مرئية ومحبوبة، ورغبتي في الاختفاء ، والإندثار، هذا الصراع يجعلني أتوه بين مشاعري ، وأفقد القدرة على التواصل بصدق مع من حولي ، فلا أعرف أيهم نفسي التي تتواصل.
أين ذهبت تلك الطفلة التي كانت تُشرق براءة ، تلك الروح المُفعمة بالحياة والأمل؟ ضاعت في غياهب النسيان ، تحت وطأة التوقعات والأحكام ، أخفي مشاعري الحقيقية وراء قناع من الابتسامات المُجبرة. أناضل من أجل الحب والتقدير، بينما أشعر في أعماق نفسي بالوحدة والفراغ.
لا يرون حقيقتي ، لا يلمسون صراعاتي الداخلية ، أو لا أحد يعرفني مهما كانت درجة قربه لي ، لا أجد من تعمق بروحي ، واستطاع التميز بين نفسي هذه ، ونفسي المندثرة.
نفسي المندثرة أجمل بكثير من هذه المتنوعة بالخير، وبالشر، بالحب ، الكره ، الأمل واليأس ، الوضاعة ، النبل. فهي نفسي الحقيقة وإن كانت وضيعة ، كلما حاولت الاقتراب من نفسي ، أجدها تهرب مني ، تتوارى خلف قناع آخر، لا أجد لها طريق، ربما من أنت يا "صاحب السريرة" ستميز ذات يومًا من هي نفس "نبع السر". كم من الأقنعة ارتديتها يا عزيزتي، لتخفي حقيقتك عن العالم؟
هل أنا السبب في هذا الضياع ، هل تقاعستُ عن فهم احتياجاتكِ ، ورعايتكِ؟ أم أن الآخرين لم يُلاحظوا نوركِ الخافت ، ولم يُقدروا روعتكِ؟
سأستعيد نفس تلك الطفلة يومًا ، أُدركُ أنّ رحلة البحث عن الذات طويلة ، وشاقة، لكنّني لنْ أستسلمَ. سأُواصلُ البحثَ حتى أجدَ نفسي ، حتى أُصبحَ إنسانًا حقيقيًا. الجميع ضائع بطريقته الخاصة ، لا أحد كامل ، لا أحد يعرف كل الإجابات ، رغم ما توصل له الإنسان من علم ، ومعرفة لازال في الكون الكثير من الخبايا تصحبها أسئلة يبحث المرء منا عن أجوبة لها.
إلى نفسي الضائعة:
أعلمُ أنّكِ موجودةٌ في مكانٍ ما ، أسمعُ همسَكِ الخافتَ ، أشعرُ بدفءِ وجودكِ. لنْ أُطفئِ نورَكِ أبدًا ، سأُواصلُ البحثَ حتى أحرّرَكِ من سجنِ الخوفِ والشكّ.
فنستطيعُ أنْ نُضيءَ دروبَنا ، ونُصبحْ إنسانًا حقيقيًا ، أكتب لك اليوم لأخبرك عن هذا الصراع ، عن هذا البحث الدائم عن الهوية ، والإنتماء. لعل في البوح بعض الراحة ، ولعل الكلمات تستطيع أن تجمع شتات النفس ، وتعيد لي تلك الطفلة التي ضاعت في زحمة الحياة.
نبع السر
٧ مارس ۱۹۰۱م
عزيزي صاحب السريرة:
تُعد الحرية من أعظم ما يمكن أن يناله الإنسان ، وهي حالة يشعر فيها المرء بأنه قادر على اتخاذ قراراته بنفسه ، بما يتوافق مع رؤيته الخاصة. ومع ذلك ، يعيش الكثير منا في عالم مليء بالإلتزامات ، والقيود التي تحد من حريتنا. غالبًا ما نجد أنفسنا محاصرين بين ما يجب أن نفعله ، وما نرغب في فعله حقًا. هل هذا هو الثمن الذي ندفعه لتحقيق التوازن بين الحرية ، والمسؤولية؟
أعتقد أن الحرية تبدأ من الداخل. تكمن أساسًا في قبول الذات ، وفهم ما نريد من الحياة. هذا التقبل يسهل علينا اتخاذ القرارات دون تردد. يجب أن نتعلم كيف نقول "لا" لما لا يتوافق مع قيمنا، وكيف نقول "نعم" لما يجعلنا سعداء. الحرية الحقيقية هي أن تكون صادقًا مع نفسك ، دون الخوف من أحكام الآخرين.
أتساءل دائمًا: هل يمكنني تحقيق الإستقلال التام في عالم مليء بالضغوط الإجتماعية والاقتصادية ، وكيف يمكنني أن أعيش حياتي دون أن يشوبها الخوف من الحكم؟ أتمنى أن أجد الإجابات التي تساعدني على تحقيق التوازن بين الحرية ، والإستقلال.
ربما تكون الخطوة الأولى نحو الحرية هي التوقف عن مقارنة أنفسنا بالآخرين. كل فرد لديه رحلته الخاصة. الحرية لا تعني التحرر من جميع القيود ، بل تعني اختيار القيود التي توافقنا ، والعيش بوعي ورضا.
نبع السر
۱۱ مارس ۱۹۰۱م
عزيزي صاحب السريرة:
أيتها النفس الساكنة إيايّ ، في عصر يتصارع فيه الزمن ، صاخب ، ومزدحم ، أعلم أنكِ تبحثين وسط الزحام عن مرسي آمن ، وقيم لا تهز الرياح ، تبقي من الثوابت التي اشي عليها حينما أتسائل: من أنا؟ ، وما هي قيمي التي أؤمن بها؟
عالم تغريه المادة ، عالمنا اليوم يغري بالمال والشهرة ، وتشغله التكنولوجيا ، الكثيرين يسعون وراء السراب ، وينسون قيم الإنسانية التي تربينا عليها. أرى الكذب والخيانة والظلم منتشرة أشعر كأنني سفينة تائهة في بحر لا نهاية له ، وأضيع بين الأفكار المتضاربة ، وأسئلة لا أجابات لها تحاصرني.
أتذكر كلمات جدتي الحكيمة ، التي كانت ترددها لي: "الإنسان يقاس بما يعطي، لا بما يأخذ". تلك الكلمات كانت بوصلتي في الحياة ، ولكن مع مرور الزمن ، بدأت أضيع بوُصلتي وسط زحام الحياة ، ووسط الشهرة ، والنفوذ الواهية ، أدرك أن السعادة الحقيقية تكمن في راحة النفس ، وسلامة القلب ، ويقظة الضمير ، وسط زحام حياة وعالم ، وبشر مات بداخلهم الضمير ، أريد أن أكون إنسانًا صالحًا ، وأعي جيدًا أن الطريق لن يكن سهلًا ، لن يكون مفروشًا بالورود ، ولكنني سأظل أتمسك بقيمي، وسأحاول أن أنشر الخير حولي. سأكون صوتًا للحق والعدل.
يا ليت نعود إلى جذورنا، إلى قيمنا الأصيلة. و نكون قدوة للأجيال القادمة ، ونترك بصمة إيجابية في هذا العالم الفاني. أبحث عن تلك النقطة الساطعة التي تضيء لي طريقي، وأعمل جاهدة لنشر نورها ، سأكون شمعة صغيرة ، ولكنها قد تكون قادرة على إشعال نار الأمل في قلوب الآخرين.
نبع السر
۱۹۰۱م ۱٥ مارس
عزيزي صاحب السريرة:
أكتب إليك وأقول:
ـ أيتها الحياة من هذا القفص ، من هذه الزنزانة التي أحكمت إغلاقها حولي ، أحاول أن أتذكر طعم العدل ، مذاق الرغبة بالحديث ، بساطة الحياة ، دفء العناق ، وكل تلك الأشياء البسيطة التي كانت جزءًا من حياتي ، ما يؤلمني في هذا السجن غياب العلاقات من حولي ، إنحصرت ، وأصبحت متمحورة في دائرة صغيرة مغلقة ، أشعر ، وكأنني جزيرة معزولة، مهما حاولتُ أن أمد جسورًا للوصول إلى الآخرين تنقسم من الوسط وتغرق بين أمواج البحر الهائجة ، فتندثر في الأعماق ، أتذكر لحظاتي مع الجميع ، حيث كانت المحادثات تسير بسلاسة ، والضحك يملأ الأجواء. الآن ، كل ما أملكه هو صمت الجدران ، وأفكاري التي تتجول في دوائر مفرغة.
محبوس بين جدران هذا المكان ، وأدرك أن التواصل هو أساس العلاقات القوية ، وأن الإستماع الفعال ، والتعبير عن المشاعر هو مفتاح بناء الثقة. أشعر بالقهر الممزوج بالفشل أحيانًا ، حينما أري قدرة من حولي علي عيش حياتهم بشكل طبيعي دون إهدار الكثير من الوقت في المحاولة ، الفهم ، المنح ،.........إلخ.
يا ليت لو يدركون قيمة العلاقات التي يملكونها ، أتمنى لو أنهم خصصوا وقتًا للتفكير في الأشخاص الذين يحبونهم ، والتعبير عن شكرهم لهم.
الحياة مستمرة ، وأن العالم يدور، أتمنى أن تكون هذه الرسالة تذكرة صغيرة لأولئك الذين يقرأونها ، تذكرهم بأهمية العلاقات الإنسانية ، وبضرورة التواصل بصدق ، وشفافية.
كتب من ثنايا فؤاد ، حمل بداخله الحب والشوق.
نبع السر
۱۸مارس ۱۹۰۱ م
عزيزي صاحب السريرة:
نبكي بعد فوات الآوان ، عادة مورثة لا تتغير ، ولا نتعلم ، البكاء علي اللبن المسكوب ، لا نحذر ، ولا نتعظ ، ننجرف وراء الجمود فنبقي صامدين حتي ننهار ، ننهار حينما تتلظي نيران الندم ، الحنين ، والشوق ، في أفئدتنا ، فنحترق بعد حين ويفوت الآوان ، وتحتاجنا رغبة البكاء ، البكاء حتي الإكتفاء ، فلم نحذر أبدًا ، ولم ننتهز الفرصة بصورة جيدة ، فنبقي عالقين بين يا ليت كان ، وقد صار ، فنغرق في بحر الندم ، ونغرد بكاءًا كالطيور الحزينة علي أطلال الماضي ، ونتقافز من نار إلي نار ، من الحاضر المبكي ، للماضي المهدور.
نتسائل: هل الحياة فرصة واحدة ، وهل يمكن العودة للوراء لحظة الإختيار ؟ ، دموعنا جفت فبكي قلبنا ، تلاحقنا الذكريات كالظل ، ولا ملجأ أو مأوي نجده لنودع لديه ثقل الأحلام ، والذكريات هاته ، "فكم من فرصة ضاعت من بين أيدينا، وكم من كلمة لم تقل، وكم من حلم لم يتحقق"؟
ربما نكون قد تعلمنا من أخطائنا ، ولكن هل تغيرنا حقاً؟ ، أم تتكرر الأخطاء ، وكأننا محكمين داخل نفس السيناريو ، هل هناك خيطًا من الوعي يوصلنا لبر الأمان؟
نبع السر
۲۰ مارس ۱۹۰۱م
عزيزي صاحب السريرة:
إنسابت المياه الساخنة فوق كاهلي، فغمرت أجزاء من جسدي بقوة ، لعلّي أشعر بدفء يحتوي ظهري العاري ، ويسد إحساسي بفجوة العري هذه ، لكن لا زال الشعور بالبرد يغلف روحي، ولا يذوب.
كيف سيذوب؟ ، لا أعلم. ، لكن حرارة الماء لا تستطيع أن تصل لأعماقي ، ولا الدفء يصلها فتنصهر البرودة من حول روحي المرتجفة ، برودة أشبه بسلسة جبال جليدية تحاصر روحي ، ظهري يشعر بالدفء البطئ ، وكأنما هو قابع تحت أشعة الشمس ، فتبدد البرودة من حوله دريجيًأ ، وتنصهر مثل قطعة ثلج تذوب ببطء تحت أشعة شمس لا ترحم ، ولكن روحي متجمدة وسط محيط جيلدي ، يختلجني شعور أنني نبتة متجمدة برونقها في القطب الجنوبي ، تنتظر بزوغ شمس في صباح يوم لا يأتي.
وكأن الزمن يتكرر ، فأسمع الرياح تهمس بأسرار مؤلمة ، أناظر المستقبل بقلق ، ولا أري فيه سوي خيبة ظلام أمس المشابهة.
هل هذا هو مصيري؟ أن أظل أسيرة لهذا الصراع بين الحرارة والبرودة ، بين الحياة والموت؟".
نبع السر
۲۰ مارس ۱۹۰۱م
\
عزيزي صاحب السريرة
لا أنا ، ولا فؤادي ، ولا عقلي على ما يرام. ونحن جميعًا نعاني.
والسبب مجهول تمامًا ، كإحساسي بأنني جاهلة بكل ما صنعت ، أو اتخذته ، والمبدأ يتبخر بفعل الضغط ، أو من المرجح من التراكمات. أشعر بضياع عميق. فؤادي مضطرب ، وعقلي مشغول بأفكار متشابكة ، ولا أجد راحة. السبب في هذه المعاناة غامض ، كأنني ضائعة في متاهة لا أجد لها مخرجًا. هل لأني لا أعطي للموقف حقه؟
أعتقد أن جزءًا من المشكلة يكمن في أن مشاعري دائمًا ما أهمشها ، أتجاهلها بجحيم الجهل الذي يختلجني حينها يتراكم بمرور الوقت ، كحجر ثقيل على صدري يمنعني من التنفس ، وتعيقني من فهم وإدراك ما يدور حولي بسبب إيعائي من ضيق التنفس ذاك ، ولا أحد يدرك كم الصراع الذي أعيشه في الفانية ، والآخرة ، وعندما أطمح إلى بعض الساعات القليلة أريح بها عقلي من شدة تفكيره ، فيبات مشغولًا حينما يتسلل النوم إلى عيناي ، فلا تفكير يتوقف عند اليقظة أو النوم.
أتمنى أن أحظى بهدوء نفسي قليل، أسترجع به قواي المهدورة في حرب قام علي أشياء تافهة ، لا تعني شيئًا ، وترك الأهم وما يستحق كل هذا دون ردة فعل ، بادل الردة بأخرى تسعده مؤقتًا ، لحين العودة. أجد صعوبة في فهم ما يحدث لي ، أتمنى لو استطعت التخلص من هذه الأعباء التي لا طائل منها ، والتركيز على الأشياء المهمة في الحياة.
نبع السر
۱٩ مارس ۱۹۰۱م
عزيزي صاحب السريرة:
هذه الكلمات لـ "جلال الدين الرومي" تحمل في طياتها عمقًا لا يُضاهي.
"لربما أنك باحث في الأغصان عما لا يظهر إلا في الجذور".
البحث حول المعرفة والحقيقة فكرة عميقة كالبحث عن الماء في أعماق الصحراء ، لا نعرف هل هو به ما يذهب الظمأ ويبل العروق ، أم سنظل عطشى نجوب الصحراء ، دون الوصول إلي جوابًا . قد يجذبنا بريقه من بعيد فتقترب ، لكننا لا ندري هل سنجد فيه ماء يروي ظمأك ، أم هو سراب يحجب عنك الحقيقة.
نقضي وقتًا طويلًا نبحث عن الإجابات والحقائق على السطح "في الأغصان"، بينما تكون تلك الحقائق مختبئة في الأعماق "في الجذور" من الممكن أن يتوهم المرء منا بالمظاهر ، أو السطحيات التي يراها من جوانب الحياة فيضل الطريق للوصول ، في حين أن الجوهر الخفي يمثل الأساسيات التي لابد لكل منا أن يتمعن في النظر ذات "المظاهر" وذات "الأساسيات" بعبارة أخرى يدعونا "الرومي" للتعمق في البحث ، وعدم الاكتفاء بالمظاهر أو السطحيات.
هذه المقولة تُلهم الإنسان في البحث في دواخله ، ومعتقداته ، وتجاربه الحياتية الأساسية ، وفي الحقائق الخفية التي قد تكون مفتاحًا لفهم أعمق للذات ، والعالم من حوله ، عدم الاكتفاء بما هو ظاهر، إلى أن نتجاوز المظاهر، والسطحيات لنغوص في أعماق ذواتنا ، حيث تكمن الحقيقة. إن المعرفة التي نبحث عنها لا تُنال بالتسرع ، ولا بالمرور العابر على الأشياء ، وكذلك دعوة للنظر فيما وراء الأفعال ، والتفكر في النوايا ، والبحث عن المعاني الخفية التي تُشكل جوهر الحياة.
فلنستمع لنداء ، وبصيرة القلب لكل منا ثلاثة عيون ، عينان نبصر بهما ، وقلب يملك كل البصر، لنتعلم أن نتجاوز السطح ، لنبحث عن الحقيقة في أعماق الجذور
لنكن باحثين في الجذور، لا تخدعنا الأغصان المتمايلة ، ولا تستهوينا مظاهر الحياة نبحث في أعماقنا ، ففيها نجد الحقيقة التي نسعى إليها.
نبع السر
۲۱ مارس ۱۹۰۱م
عزيزي صاحب السريرة:
وقفت أتأمل كلمات "الرومي والتبريزي" وكلا منهما يعكسان فلسفة عميقة حول طبيعة الحياة والتغيرات التي نمر بها
فيقول "الرومي": "لا تشرق الروح إلا من دجي الألم، هل تزهر الأرض إلا أن بكي المطر"؟
ويوضح "التبريزي":" إن في الحياة فترات إنتقالية لا يمكن إجتيازها دون أن يموت شيء بداخلك" .
يذكرانا أن التغيير هو القانون الوحيد الثابت في الحياة ، فالتقدم يتطلب تضحيات يمكن أن تكون مادية ، معنوية ، وكذلك داخلية ، أن الحياة مليئة بمراحل وتغيرات قد تكون صعبة أو حتى مؤلمة ، يجب علينا أن نعتاد التكيف ، والتخلي لنتمكن من التقدم والنمو.
الحياة ليس خط مستقيمًا خالي بل هي متلوية ، مليئة بالتقلبات ، والتحديات التي تتطلب شجاعة ، ووعي قد نواجه فترات انتقالية مثل التخرج من الدراسة ، تغيير الوظيفة ، فقدان الأحباء ، أو حتى تغير في القيم ، والمعتقدات الشخصية لذا من الأفضل الإعتياد ، والتكيف بجانب تقبل التخلي.
وثم أنه ليس المقصود " إجتيازها دون أن يموت شيء بداخلك " بالموت الفعلي بل هي إستعارة للضرورة للتمثيل ، ووإيصال المعني لنا بوضوح . قد يكون هذا الشيء الذي "يموت" داخلنا هو ، بعض العادات قديمة أو ضارة نحتاج للإنتهاء منها لننمو ونطور من أنفسنا ، العادات ، المعتقدات ، أو التصورات التي كنا نعتنقها سابقًا لتتناسب مع واقعنا الجديد ، أو لتحقيق تنمية شخصية أفضل ، وكذلك المعتقدات ، والتصورات.
وعلاوة علي ذلك عملية التخلي ليست سهلة ، فهي تتطلب شجاعة ، وإرادة قوية.
ومع ذلك فإنها للنمو الروحي الذي يمكن أن يشير إلى التخلص من الأنا الزائفة، والإنفتاح على تجارب جديدة ، والوصول إلى مستوى أعمق من الوعي. قبل الشخصي ، يجب أن نكون على وعي بما يحتاج إلى تغيير، أو تخلي عنه في حياتنا ، نتقبله لأنه جزء لا يتجزأ من الحياة ، وأنه ضروري للنمو ، هذا الموت الداخلي ضروري لكي نولد من جديد ، ونصبح أشخاصًا أفضل ، وبالتالي لا يمكننا أن نتوقع أن نمر بفترات انتقالية دون أن نشعر بالألم ، والحزن والفقدان ، فلا بد من التسليم بالموت الواجب.
وبالأخير يقدما لنا بصيصًا من الأمل. فبعد كل موت داخلي، تولد حياة جديدة وأكثر قوة ووعيًا.
نبع السر
۲٧ مارس ۱۹۰۱م
عزيزي صاحب السريرة:
في رحلة الأمل النائي ، نتهجر بعيدًا ، ونرحل إلي أقاصي الآفاق ، ونتخذ قرارًا بالشفاء ، أن ننسي كل الأوجاع التي تقبض أرواحنا ، وتشعرنا بالضيق ، ننسي أو نتظاهر بالنسيان لنتمكن من العيش بسلام داخلي ، قد نجدنا نتظاهر بالتجاوز ، ولكن الحقيقة أن الجراح العميقة لا تلتئم بسهولة ، نتداعي النسيان بغرض تخفيف وطأتها ، نأبي أن تنفتح مجددًا ، لكنها تكشف عن نفسها بقسوة أكبر مع مرور السنين ، قد نظن أننا نطفو فوق السطح ، ولكننا لازلنا غارقين بالأعماق ، تتجدد كما لو كانت حدثت للتو.
الوقت قد لا يكون دائمًا هو الشافي ، المواجهة من الممكن أن تفعل ، فهناك جراح لا تداوي بمرور الأيام ، بل تتحول من جرح غائر، ومن حرج غائر لندبة ، الشفاء الحقيقي يبدو بعيد المنال.
صاحب السريرة ...... هل يمكن أن يكون الهجران بداية جديدة نحو الشفاء؟ ، حتي لو كان بطيئًا ، وصعبًا. وعلام لا يكون الهجران شفاء ؟ ، هل لأن الهجران يجب أن يكون بإستعداد منا لإحتضان ما يحمله من فرصة للشفاء؟ ، ولا يكتفي بذلك فحسب بل يجب أن يكون نابع من إرداتنا القوية.
نبع السر
۳۰ مارس ۱۹۰۱م
"العلاقة بين نبع السر وصاحب السريرة"
علاقة فريدة بين نبع السر ، وصاحب السريرة ، علاقة مبنية على الثقة والتفاهم المتبادل. تعكس رغبة الإنسان في التواصل مع الآخر، وفي البحث عن الأذن الصاغية التي تستمع إليه دون حكم هو "صاحب السريرة" المستمع الصامت الذي تتشارك معه الأفكار والأحاسيس والأسرار من خلال هذه الرسائل.
هذه العلاقة بين "صاحب السريرة" و"نبع السر" على أنها تمثل الجزء العقلاني ، والجزء العاطفي من الشخصية ، وكيف يتفاعلان معًا لتشكيل تجربة الإنسان .
ألاحظ أن بعض القراء يعتقدون أن كتاباتي تعبر عن تجارب شخصية لي. هذا صحيح جزئيًا ، فأنا أستوحي الكثير من كتاباتي من مشاعري وأحاسيسي كإنسانة عامة. ومع ذلك ، فإنني أحرص في كثير من الأحيان على الحصول على إذن من الأشخاص الذين أستوحي قصصهم ، وتجاربهم قبل أن أكتب عنها ، وهذا لا يصبني بالخنق بالعكس إني أفخر بهذا فقد أصبت.
حتي ظن القارئ أن هذه مشاعري، مواقفي ، حكاياتي تجاربي...،...،..غيرها .