لم أقع يومًا في مواقف كتلك التي وجدت نفسي فيها مؤخرًا، غير أنني تعلمت أن بعض الأمور لا تُدار بالقوة ولا تُحسم بالصوت العالي، بل تُحلّ بالتفاهم والتفاوض، وبالكلمة الطيبة التي تفتح الأبواب المغلقة. لغة القمع لم تكن يومًا خيارًا منطقيًا، ولا سبيلًا حكيمًا لبناء علاقة أو الحفاظ عليها. فهل خُلقنا لنقمع أفكارنا وأفكار من اخترناهم بأنفسنا، بكامل وعينا وإرادتنا، صحبةً وعونًا وسندًا نمضي معهم في طريق واحد؟
أتساءل بمرارة: هل كان تقديرنا خطأً لمجرد اختلافٍ عابر قد لا يستحق كل هذا التزمت والتخبط، وربما التكبر أحيانًا؟ لقد سئمنا من إقحام الكرامة في موضوعاتٍ لا تمت إلى ميدانها بصلة. فالكرامة الحقيقية لا تُختبر في خلافات صغيرة، بل في مواقف كبرى يُكشف فيها معدن النفوس. أكانت الكرامة يومًا حاضرة حين وحّدنا همٌّ واحد، وحلم مشترك، وقضية جمعنا التفكير فيها؟
أستحلفك بالله، ألم يمرّ عليك يومٌ شعرتِ فيه أننا جُعلنا لنكمل بعضنا بعضًا بحق، لا من باب المجاملة ولا بدافع العاطفة العابرة؟ أما أنا فما زلت أذكر تلك اللحظة الخالدة التي بُحتِ فيها بما في صدرك، لحظةً خطّتها الأيام في سجلّها الذهبي. والآن، إذ أستعيد الذاكرة والقلب والعقل معًا، أسألك بصدق: هل كان ذلك الشعور نابعًا من أعماقك، بكامل وعيك، أم كان مجرد كلمات خرجت عفوية لم تُدركي ثِقلها وقيمتها؟
أما عني، فأنا لا أحتاج إلى استدعاء الشك. أدري تمامًا أن كل إحساسٍ جمعني بك كان صادقًا، نابغًا من القلب، وممهورًا بختم العقل. لم يكن ترفًا، ولا هروبًا من وحدةٍ عابرة، ولا محاولةً لملء فراغ عاطفي أو اجتماعي. لقد كان مشروعًا للروح، بنيته على أملٍ أن يُتوّج يومًا برابط متين يليق بنا، ويصمد في وجه الأيام.
صدقيني، لم أضيع وقتي يومًا وأنا أسعى لبناء هذه العلاقة، ولم أُهدر عمري في طريقٍ لا يحمل المعنى. كنت أرى في كل لحظة بيننا خطوةً نحو مستقبلٍ أجمل، لا مجرد تسلية عابرة أو مغامرة قصيرة. وأيّامي التي قضيتها إلى جوارك لم تكن مجرد أيامٍ عادية، بل محطات علّمتني أن للحياة طعمًا آخر حين نتقاسمها مع من نشعر أنهم الامتداد الطبيعي لذواتنا.
فإن كنتِ ترين أن الأمر لم يتجاوز كلماتٍ عابرة، فاعلمي أنني لم أره كذلك قط. بالنسبة لي، كان كل ما جمعنا صادقًا، له جذورٌ في القلب، وأجنحةٌ تحلّق في العقل والروح. ولستُ نادمًا على شيء، لأنني سعيت بوعيٍ كامل أن أجعل من العلاقة جسرًا نحو ما هو أسمى، لا مجرد ذكرى تتبعثر مع الزمن.
هذه كلماتي إليكِ، لا أطلب بها تبريرًا ولا جوابًا عاجلًا، إنما أود أن تعلمي أن ما في القلب لا يزال حيًّا، وأن نيّتي منذ البداية لم تكن إلا أن نمضي معًا نحو ضوءٍ يليق بنا.