يا أخي…
أتعرف معنى أن تعمل حتى تنسى نفسك؟ أن تستيقظ على صوت التعب قبل أن يرنّ المنبّه، وأن تنام – إن نمت – وأنت تفكر في الغد الذي ينتظرك بمزيد من الجهد؟ والله يا أخي، هذا حالي منذ أيام طويلة. لم أذق طعم النوم منذ البارحة، تنقلت بين ساعات الدوام التي أنهك فيها الجسد، والحقل الذي أتابع فيه الزراعة، أراقب البذور وكأنها أولادي، وأحسب خطواتي في الأرض خوفًا من أن يضيع تعب الشهور.
ثم أخرج أبحث عن أي مصدر رزق، في كل مكان، في كل فرصة، حتى وقت الراحة لم يعد راحة، بل صار امتدادًا للعمل. وأنت… ماذا تظن؟ أنني أفعل كل ذلك لهوًا؟ أنني أركض خلف شيء تافه؟ كلا، يا أخي، أنا أركض لأجلنا، لأجل أن يبقى بيتنا واقفًا، وأرضنا عامرة، واسمنا محفوظًا.
نحن أشقاء، من دم واحد، ولحم واحد، نكبر معًا ونحمل نفس الملامح. صحيح أن عقولنا تختلف، وتقديراتنا قد تتباين، لكن ما يجمعنا أعمق من أن تهزّه أي خلافات. ومع ذلك، أجدك اليوم غريبًا عني، كأنني أتعرف عليك لأول مرة، وكأن السنوات التي قضيناها جنبًا لجنب لم تكن إلا حلمًا انقطع فجأة.
ما الذي حدث؟ ما الذي أطفأ وهجك؟ حدّثني… فضفض… دع عنك هذا الصمت الذي يأكل روحك من الداخل. أنا هنا لأسمعك، لأفهمك، لأشاركك حملك. حتى أمك، ألم ترَ كيف انحنت كتفاها من الهمّ؟ كيف صار بصرها بعيدًا وكأنها تبحث عن أيامنا القديمة؟ كل خلاف نخلقه بيننا يسقط حجرًا من جدار بيتنا، حتى يكاد السقف ينهار فوق رؤوسنا.
تذكّر يا أخي… هذه الدنيا التي نلهث وراءها، مهما زيّنت نفسها لنا، سنتركها يومًا ونرحل. سنغادر بلا مال ولا جاه، لكننا سنترك ذكرى، واسمًا، ونسلًا. وإن نحن افترقنا، فمن سيحفظ هذا الإرث؟ ومن سيحمل راية الأجداد؟
دع عنك كل ما يزرع البغضاء في قلبك، ألقِه مع الريح، فالأرض التي نزرعها أوسع من خلافنا، والسماء التي تظلنا أرحب من ضيق قلوبنا. ما يجمعنا لا يقاس بالأيام ولا بالمسافات، بل بالدم الذي يجري في عروقنا.
أنا لا أمد يدي إليك اليوم فقط، بل مددتُها مئات المرات، وسأمدّها حتى آخر نفس. لا أطلب مقابلًا، لا مالًا ولا شكرًا، فقط أريد أن نحافظ على ما تبقى منا. لأنني أعلم… إذا ضاعت وحدتنا، فلن يبقى منا شيء، وسنصبح مجرد ذكرى باهتة تذروها الرياح.
فلنقف معًا يا أخي، في وجه الدنيا والعاصفة، حتى إذا هبّت رياح الفقد، وجدنا أنفسنا متكاتفين، متشبثين ببعضنا كما يتشبث الجذر بالأرض. لأننا إن افترقنا… ضاع كل شيء.
فالأخ ليس مجرد شخص يشاركك النسب، بل هو الحصن الأخير حين تنهار الأسوار.
فمد يدك… ولنحرس ما تبقى من بيتنا، قبل أن ينهار السقف فوقنا جميعًا.