لم يعد مشهد الصفوف الطويلة غريبًا على المواطن السوداني؛ فقد صار جزءًا من يومياته، يتنقل بينها كما يتنقل بين محطات الحياة. غير أنّ أكثر ما يستنزف الوقت والجهد هو الانتظار أمام نوافذ الخدمات الأساسية، وعلى رأسها خدمات الكهرباء. واللافت أن معاناة المنتظرين هنا لا تتعلق بسوء تعامل الموظفين أو كثافة الزبائن كما قد يظن البعض، بل بخلل أعمق يتمثل في رداءة الأجهزة والأنظمة المستخدمة، والتي تجاوزها الزمن وأصبحت غير صالحة لمجتمع يتطلع إلى خدمة سريعة وعادلة.
لقد قضيت ساعات طويلة أمام نافذة خدمات الزبائن لشركة توزيع الكهرباء، ولم يكن السبب عجز الموظفين عن أداء واجباتهم، ولا تدافع الناس بشكل مبالغ فيه، وإنما أعطال الأجهزة المتهالكة. إنّ مجرد إدخال بيانات بسيطة أو إتمام إجراء روتيني قد يستغرق أضعاف ما ينبغي، وكأنّ المواطن مرهون برغبة جهازٍ عتيق لا يريد أن يعمل. هذا المشهد المؤلم يطرح سؤالًا جوهريًا: لماذا تصر شركات الخدمات –خاصة تلك التي تنتمي للقطاع الخاص– على إدارة شؤونها بوسائل بدائية، في وقتٍ أصبح فيه العالم كله يتجه نحو الرقمنة والسرعة؟
الصفوف كجزء من الثقافة اليومية
حين نتأمل أوسع في المشهد العام، نجد أنّ الصفوف لم تعد مجرد حالة مؤقتة مرتبطة بسلعة أو خدمة، بل غدت ثقافة يومية تتكرر عند المخابز، محطات الوقود، نوافذ الكهرباء، وحتى خدمات مياه الري. لكل صف أسباب وظروف، لكن القاسم المشترك هو الإحساس بالوقت الضائع والكرامة المهدورة. ففي بعض الأحيان تكون المشكلة مرتبطة بضعف كفاءة الموظفين، أو بقصور الطاقة الإنتاجية عن تلبية حجم الطلب، وفي أحيان أخرى يكون السبب أعمق وأكثر ارتباطًا بآليات العرض والطلب.
فالطلب المرتفع على سلع معينة، مع محدودية العرض، يفتح الباب أمام المضاربات والفساد. وفي مثال الخبز مثلًا، نرى الناس يتوجهون في وقت واحد إلى المخابز، مما يخلق حالة من الازدحام تُستغل بسرعة من قِبل المنتفعين وأصحاب النفوذ. هؤلاء يحولون الصفوف إلى فرص للثراء غير المشروع، فينشأ سوق موازٍ غير رسمي، تُباع فيه السلع بأسعار أعلى أو تُخصص لفئة دون أخرى. هكذا يتحول الحق في الخبز أو الوقود إلى امتياز لا يناله إلا من يملك الواسطة أو يدفع ثمنًا إضافيًا.
الكهرباء.. معاناة من نوع آخر
لكن الصفوف في نوافذ الكهرباء تختلف بطبيعتها عن صفوف الخبز والوقود. هنا نحن أمام شركة تتبع للقطاع الخاص، يفترض أن تكون أكثر حرصًا على كسب رضا المستهلك، باعتباره مصدر دخلها الأساسي. غير أنّ الواقع يقول عكس ذلك؛ فالأنظمة المستخدمة قديمة، وأجهزة الخدمة بطيئة، ما يجعل أي إجراء روتيني معركة طويلة من الانتظار.
الأمر لا يتعلق فقط ببطء الخدمة، بل بما يحمله ذلك من انتهاك صريح لحقوق المستهلك. المواطن يدفع من حر ماله مقابل خدمة يفترض أن تكون دورية وجيدة، لكن ما يحصل عليه لا يتناسب مع ما يقدمه. بل أكثر من ذلك، فإن هذه الأعطال المتكررة تُضعف ثقة الناس بالشركة وتفقدها سمعتها. كلما كان الصرف على تحديث الأنظمة والأجهزة أكبر، انعكس ذلك إيجابًا على أرباح الشركة، والعكس صحيح؛ إذ إنّ الإبقاء على آليات قديمة يضر بالمستهلك والشركة معًا.
مسؤولية مشتركة
لا يمكن أن نحمل الدولة وحدها مسؤولية الصفوف المتكررة، وإن كانت سياساتها جزءًا من المشكلة. فالمواطنون أنفسهم يتحملون نصيبًا من المسؤولية من خلال سوء تقدير التوقيت والتزاحم في وقت واحد، كما أنّ ثقافة الصمت والقبول بالأمر الواقع تعطي الشركات والحكومات مبررًا للاستمرار على النهج نفسه.
إضافة إلى ذلك، يفتح غياب الشفافية والمساءلة الباب أمام الاستغلال، سواء من قبل الموظفين أو من قبل السماسرة والمنتفعين الذين يقتاتون على معاناة الناس. فبدلًا من أن تكون نوافذ البيع والخدمات سبيلاً لتخفيف الأعباء، تتحول أحيانًا إلى منصات للفساد والتمييز.
الحل يبدأ من احترام المواطن
ما نحتاجه اليوم ليس مجرد إصلاح جزئي، بل تحول جذري في طريقة تقديم الخدمات. يجب أن تقوم الشركات، خاصة تلك العاملة في القطاع الخاص، على احترام وقت المواطن وكرامته. وهذا لا يتحقق إلا عبر اعتماد أنظمة رقمية حديثة، وتحديث الأجهزة بصورة دورية، وتدريب الموظفين على السرعة والفعالية في التعامل مع الجمهور.
المستهلك ليس متسولًا أمام نافذة الانتظار، بل شريك في العملية الاقتصادية، يدفع مقابل خدمة واضحة يجب أن تقدم له بلا مماطلة أو انتقاص. إنّ تحسين الخدمة لا يخدم المواطن فقط، بل يخدم الشركة نفسها، إذ يعزز من سمعتها ويزيد من إقبال الناس عليها، مما يعني ربحًا أكبر واستدامة أقوى.
نحو ثقافة جديدة
القضاء على مأساة الصفوف لا يقتصر على إصلاح الأجهزة أو زيادة عدد النوافذ، بل يتطلب تغييرًا في العقلية والثقافة العامة. علينا أن نغرس قيم احترام الوقت، وتنظيم الطلب، والمطالبة بالحقوق بطريقة واعية. كما أنّ على الدولة أن تضع أنظمة رقابية صارمة لمنع أي تجاوز أو استغلال، وأن تلزم الشركات بتطبيق معايير جودة واضحة لا يمكن التلاعب بها.
إنّ بناء وطنٍ أفضل يبدأ من تفاصيل صغيرة كهذه؛ من قدرة المواطن على الحصول على خدمة كهرباء دون أن يهدر نصف يومه في الانتظار، ومن ضمان رغيف خبز دون إذلال، ومن توفير وقود دون ابتزاز. فالكرامة لا تتجزأ، وأساسها أن يشعر الفرد بأن وقته وحاجاته تحظى بالاحترام.
وفي النهاية، تظل الصفوف عنوانًا مؤلمًا لقصور الأنظمة، لكنها أيضًا مرآة تعكس حاجة المجتمع إلى إصلاح عميق يضع الإنسان في قلب العملية الاقتصادية والخدمية. فحين تُحترم كرامة المواطن في أبسط تفاصيل حياته، يمكن عندها أن نتحدث عن نهضة حقيقية تستحق أن نفخر بها.





































