الحياة لا تمنحنا دومًا ما نريد، ولا تُمهلنا حتى نُرتّب أحلامنا، أو نُداري خيباتنا الصغيرة.
كلما حاولتُ أن أرفع رأسي قليلًا، وأن أتنفّس من رئة الأمل، صفعتني يد الواقع.
حتى تلك الحبيبة التي كنّا نحكي عنها في جلسات الأصدقاء، ونتباهى بقصصها كما لو كانت انتصارات شخصية… لم تعد كما كانت.
كانت يومًا طفلة بريئة، عيناها تشبه عيون الغزال، خطواتها خفيفة على قلبي، وضحكتها تسبقها في المجالس.
غابت. بل لم تغب فقط، تبدّلت.
أظهرت وجهًا لم نكن لنصدّق أنه يسكنها. وجهٌ بارد، قاسٍ، كأننا لا نعرفه، لا واقعًا ولا حتى خيالًا.
لم أستوعب ذلك، لا منها تحديدًا.
كنت أظنها الاستثناء، كنت أظن أن في قلبها مساحة لا تتغيّر.
فهل كنا سُذجًا؟ أطفالًا قُصّرًا في فهم الحياة؟
كنا نعيش أحلامنا بعفوية، نبني العلاقات بلا حساب، نمضي مع الوقت ونحن نظن أننا نملك شيئًا خالدًا.
لكن ما الذي تبقّى من كل هذا؟
أين تلك اللحظات التي كنّا نتشارك فيها الأحاديث والضحكات؟
حتى الوقت لم نعد نملكه لبعضنا البعض.
لم نعد نلتقي في النادي كما اعتدنا، ولا في السمرات العفوية، ولا حتى في الزوايا الصغيرة التي كانت تعني لنا الكثير.
البيت لم يعد بيتًا، تحوّل إلى ساحة معركة، لا يمكنني استقبال صديق فيه، ولا حتى قريب.
كل ما فيه مشحون بالتوتر، بالفوضى، بالصراخ الذي لا يُسمع لكنه يُمزق القلب.
هل الزواج كان هكذا دائمًا؟
لم يكن كذلك عند كثير من الشباب الذين نعرفهم.
لماذا يحدث معي أنا؟
ربما لا يفرق كثيرًا، لكنني لا أريد أن أكون جزءًا من هذه الدائرة المغلقة.
أفكر في قرار… قرار لا أندم عليه لاحقًا.
قرار يُنقذني من مستنقعٍ يزداد عمقًا كل يوم.
بعيدًا عن هذه الفوضى، عن معارك النساء، عن زيف العواطف التي تبدأ بـ"أموت من أجلك" وتنتهي بـ"من أنت أصلًا؟".
نعم…
قد تتحوّل المرأة بعد الزواج إلى شخصٍ آخر.
وقد نكتشف أن من ظنناها ملاكًا، لم تكن سوى قناع لحظي، سقط مع أول مطبّ عاطفي أو مسؤولية حقيقية.
المشكلة ليست فيها وحدها، بل في هذا العالم الذي يسمح لمن لا يفقهون شيئًا أن يتقمصوا كل الأدوار.
صانع، مالك، مسوّق، مستهلك… ثم لا يفهم شيئًا من دوره، ولا من تأثيره على الآخرين.
كان الليل طويلًا…
المطر يهطل بلا انقطاع، وأنا أبحث عن مخرج من كل هذا الضيق.
فكرت في صديقي، لم تكن بيننا حواجز، لا زمان ولا مكان.
حملت أغراضي وذهبت إليه.
وجدته مستيقظًا، كأنه يستعد لاستقبال ضيوف من الخارج.
جلسة دافئة، ضحكات، روائح قهوة تملأ المكان.
تساءلت: "كيف تحتمل زوجته كل هذا؟"
همست لنفسي، لكنه سمعني، فابتسم وقال:
ـ "يا صديقي، هذه ليست أول قهوة… ولن تكون الأخيرة.
هذا… مصيري أنا.