خلقنا الله لعبادته، لا شك في ذلك، كما خلقنا لإعمار الأرض، والسير فيها بالإحسان والعدل. فالحياة لم تُلقِ بنا في مهبّ الريح طالما سرنا على الطريق القويم. نحن بشر، نخطئ ونصيب، ولكننا نُؤمر دومًا بأن نقيس الأمور بموازين الشرع والعقل، وأن نحتكم إلى القرآن الكريم والسنة النبوية، حتى في أدق تفاصيل حياتنا، فردية كانت أو جماعية.
ما عادت الحياة تُقاس بمظاهر الزينة وحدها. فليس من المعقول أن يُشيَّد قصر على أحدث طراز في قلب قريةٍ بسيطة، بينما يُترك المسجد – بيت الله وموئل الناس – في حال من الإهمال، أو يُبنى من القش والخشب، كأنه تفصيلة هامشية في مشهد الحياة. مثل هذا السلوك لا يجافي فقط تعاليم الإسلام، بل يخلّ بأبسط قيم الذوق، ويُهين ذاكرة المكان التي نشأ فيها صاحب القصر.
في السابق، كان الغنيُّ لا يهنأ بماله إلا إن رأى الناس من حوله وقد عمّهم الخير. كانت أُلفة القرية، والحياء المجتمعي، كفيلَين بأن يدفعاه للبذل والعطاء، وأن يُحسن إلى أرضه وأهله، وأن يبني مسجدًا يليق بعبادة الله، قبل أن يبني بيتًا يليق برغد العيش. أما اليوم، فقد تبدّلت القيم، وتحوّلت منطق العطاء إلى استعراض، وغاب عن كثيرين أن الأصل في النعمة هو الشكر، لا التفاخر.
بل إننا نرى بعض الأغنياء من أبناء القرى والمناطق الطرفية، ما إن يشتدّ عودهم ويزداد مالهم، حتى يغادروا مناطقهم دون رجعة. لا يبقون فيها أثرًا، ولا يتركون فيها بيتًا، وكأنّها لم تكن لهم يومًا مسكنًا ولا موطنًا. بعضهم يرى في الرحيل تحررًا من ذاكرة الفقر، وآخرون يعتبرونه ضرورة للعمل أو البحث عن بيئة أكثر استقرارًا. ولكن يبقى السؤال: هل يعني الرحيل قطع الصلة؟ وهل الغنى مبرر لهجر الأرض والأرحام؟
نقولها بصدق: إن اضطر الإنسان لمغادرة منطقته للعمل أو التعليم أو أي غرض مشروع، فلا لوم عليه، لكن أن ينسلخ عنها تمامًا، فلا يبقي فيها أهلًا ولا مأوى، ولا يسهم في إعمارها ولا تطويرها، فذلك ما يُحزن. فكما أن للمال زكاته، فإن للمكان وفاءً، وللأصل جذورًا لا تُنسى.
وبين من يغادر بلا رجعة، ومن يبقي على خيط الوصل من خلال منزل أو زيارات أو خدمة مجتمعية، نرى التفاوت. فبعضهم لا يزال يفتخر بأصله، يعود في المواسم، يشارك في بناء المدرسة، أو في سقف المسجد، أو حفر بئر، أو دعم مركز صحي… هؤلاء يخلّدهم الناس في ذاكرة المكان، ويُصبحون جزءًا من الخير الجاري، حتى بعد غيابهم.
وفي مقابل هذا الانقطاع، ظهرت ظاهرة اجتماعية جديدة – التداخل الثقافي. فبسبب النزوح والهجرة الداخلية، بدأت تتشكّل علاقات بين أبناء مناطق وثقافات مختلفة، ونشأت زيجات وتصاهر بين مجموعات كانت، في السابق، تعيش على هامش التواصل. وهذه الظاهرة، على الرغم من كونها نتيجة مباشرة لحركة الناس، إلا أنها تحمل وجهًا مشرقًا من وجوه التسامح الاجتماعي، وربما حتى الديني، حينما تلتقي القيم في مساحة وسطى من التفاهم والتقبل.
لكن يبقى التحدي في أن لا يتحوّل التداخل الثقافي إلى ذوبان، ولا أن يصبح الغنى مدعاة للغرور، ولا أن تُبنى القصور على حساب المساجد والبيوت القديمة التي احتضنت ذكريات الطفولة وركعات الصلاة الأولى.
إن أعظم ما يمكن للإنسان أن يتركه خلفه ليس ما بناه لنفسه، بل ما تركه من أثر في حياة الآخرين. وإن أوْلى الأثر هو أن تحيي موطنك، وترد له الجميل، وتكون خير سفير لأصلك لا منبتًا له.