يا صديقي،
احترام الكبار لم يكن يومًا مجرد سطور إنشائية حفظناها في دفاتر المدرسة، ولا هو تعاليم نُردّدها من باب الفضيلة في حصص الدين. إنما هو طينة من طين الأرض التي أنبتتنا، جزء من كيمياء المجتمعات الريفية التي ما زالت تحفظ للعمر قدره، وللتجربة حرمتها، وللشيب هيبته.
في السودان، الكبار لا يُحتفى بهم بأوسمة معلّقة على الجدران، بل تُبنى مكانتهم بصمت في تفاصيل الحياة اليومية: في كرسيهم الثابت تحت ظل شجرة النيم، في نظرات الصغار التي تنخفض احترامًا، في جملة "السلام عليكم يا عم"، وفي فنجان القهوة الذي يُقدَّم دون طلب. الكبار هنا لا يفرضون سطوتهم، بل تُمنح لهم بطيب خاطر. ومتى ما سقط الاحترام من النفوس، تفككت الأوصال، وتشوّهت صورة المجتمع كما تتشوه الملامح في مرآة مكسورة.
يا صاحبي،
ذاك التماسك المجتمعي الذي نراه في قريتنا لم يكن ضربة حظ، بل هو بناء طويل الأمد، شيدته الأجيال السابقة حجراً فوق حجر. الأب والأم، الجار والقريب، الإمام والمعلم، الكل كان يعرف مكانه ويُقدّر مكانة الآخر. لم يكن الصغير مجرد تابع، بل كان يُسمَع له، وكان الكبير رغم مقامه لا يتكبر على أحد. كانت الحياة تمضي بسلاسة لأن الجميع كان يعرف أن الاحترام المتبادل هو الضمانة الوحيدة للعيش الكريم.
وكان أجمل ما في ذلك التماسك أنه لم يُلغِ التنوّع، بل احتضنه. في قريتنا تعايشت أعراق وثقافات ولهجات، ولم نشهد يومًا أن فلانًا أُقصي لأنه ليس "مننا". كانت الهوية مشتركة، والنَفَس واحد، والهمّ واحد. لم تُبنَ بيننا جدران الطوائف، بل جسور من محبةٍ صادقة وألفةٍ نادرة.
لكن القدر، يا صديقي، له سُبل لا ندركها. شدّتنا الحياة من جذورنا، وحملتْنا الهجرة على أكتافها إلى أماكن لا تشبهنا، ولا نشبهها. منذ اللحظة التي غادرنا فيها القرية، بدا وكأن الزمن انفصل عنا، وكأننا فقدنا بوصلتنا. صرنا نُعامل كمغتربين، وكأننا نمتلك من الذهب ما يثقل الجيوب، بينما نحن لا نحمل سوى أوراق الهوية ومصاريف الاتصالات. والمفارقة أننا كنا نحسب أننا سنجد من يربت على أكتافنا هناك، فإذا بنا نُسأل: "من أين أنتم؟"، وكأن الوطن ضاق بنا، أو كأننا لم نكن يومًا منه.
الغربة، يا صديقي، ليست فقط أن تعيش خارج الحدود الجغرافية، بل أن تعيش داخل وطنك وتُعامَل كأنك عابر سبيل. أن تمرّ على الأحياء فلا يعرفك أحد، أن تحاول أن تتحدث بلغة المكان الجديد فلا تجد مفردات مشتركة، أن تمد يدك فلا تجد يدًا تمتد بالمقابل.
كنا نظن أن المغترب هو ذلك الذي يبحث عن العمل أو الدراسة أو المستقبل، فإذا بنا نكتشف أن الغربة قد تكون بين جدران من خيام الإغاثة، وأن "الاغتراب" ليس انتقال الجسد فقط، بل هو تشظّي الروح.
ولم يكن الجرح فقط في الغربة، بل أيضًا في الطريقة التي حاولت بها الأنظمة أن تقتل فينا الانتماء. أرادونا أن ننسى من نكون، أن نشكّ في حبنا للأرض التي نشأنا عليها، أن نصدّق أننا مجرد أرقام في دفاتر الأمن. لكن، رغم العنف، رغم الاضطهاد، رغم النزوح والملاحقة، لم نكفر بالوطن.
لأن الوطن الحقيقي، يا صاحبي، لا يتخلى عنك. ربما يصمت حينًا، وربما يعجز عن حمايتك، لكنه يعرفك. يعرف اسمك واسم أمك، يعرف القرية التي نشأتَ فيها، والمدرسة التي جلستَ على مقاعدها، والظل الذي احتميت به ظهر كل جمعة.
وإن قست علينا السلطة، فليس الوطن هو من قسا، بل من ادّعوا أنهم أوصياء عليه. وما زال الأهل في القرى يدعون لنا في ظهر الغيب، يذكرون أسماءنا في المجالس، ويصبرون على فراقنا بصبر الصالحين.
فيا صديقي، لا تجعل الغربة تُطفئ نور قلبك، ولا تسمح للخذلان أن ينزع عنك لباس الانتماء. نحن، وإن مشينا في أرضٍ غير أرضنا، قلوبنا ما زالت معلقة على أبواب بيوتنا القديمة، وأرواحنا ما زالت تحرس أشجار النيم التي جلس تحتها الكبار… أولئك الكبار الذين علمونا أن نحترم، وأن نصبر، وأن نظل أبناء الأرض حتى وإن ضاقت بنا الأرض.





































