ظننتُ أن الحياة قد توقفت عند بابك، وأن الغياب أصبح قدري الأبدي. لم يخطر ببالي يومًا أن تعودي من جديد. طرقتُ كل الأبواب، وسلكتُ كل الدروب، ولم أترك سبيلًا إلا جربته علّي أجد طريقًا يقودني إليك. قلبتُ الحجارة حجرًا فوق حجر، استعنتُ بكل وسيلة مشروعة، ولم أعرف يومًا المستحيل. كنت أستيقظ كل صباح وفي داخلي بقايا أمل يتشبث بالحياة، فأوقظ أحلامي من سباتها، وأتضرع للمولى أن يعيدك إليّ. كنت على يقين أن القدر، مهما طال عناده، لن يقف عائقًا أمام لقاءٍ تمنّيتُه بصدق، حتى وإن بدا لي أحيانًا أن كل ما أعيشه ليس أكثر من حلم عابر أو نقشٍ على ماءٍ عكر.
في صباحٍ نديّ، تزينت السماء بصفاء نادر، وارتدت الحديقة وشاحًا من نسمات عليلة تعبق برائحة الأرض الندية. بدا كل شيء يفيض بالجمال؛ الطيور تحلّق بحرية، والعصافير تتبادل شدوها فوق الأغصان، أما قلبي فكان يترنح بين السكينة والانتظار. حملتُ مقعدًا عتيقًا من خشب المهوقني، ورثتُه عن جدتي، ووضعته تحت ظل شجرة كبيرة. ثم أحضرتُ كوبًا من القهوة التي طالما اعتدتُ احتساءها وحيدًا حين أبحث عن خلوة صافية مع ذاتي المبعثرة.
جلستُ، وأمسكتُ بالكوب الدافئ. مع أول رشفةٍ، تدفقت الذكريات كالنهر؛ رأيتُ طفولتي تركض بين الحقول، وشبابي يتأرجح على أملٍ كبير، وأيام الجامعة التي زخرت بأحلامٍ لا تنتهي. لم تبقَ ذكرى إلا وكانت وردتي الجميلة في صميمها، تتوسط اللوحات كملكة لا ينازعها أحد. وكلما توغلتُ في الذاكرة، ازداد قلبي شوقًا، حتى خُيّل إلي أن أنفاسي تحمل اسمها.
ومع آخر رشفة، حدث ما لم يخطر لي ببال؛ أحسستُ بذراعين يلتفّان حولي من الخلف. ارتجفتُ، وتوقف الزمن عند تلك اللحظة. تسلّل إلى أذني صوتٌ حنون أعاد إلي شبابي وحياتي:
"أنا خُلقتُ من أجلك وحدك… أنا أحبك… لطالما كنتَ موجودًا فأنا موجودة لك."
ارتعش جسدي، وتجمدتُ في مكاني، للحظةٍ حسبتُها خيالًا يُداعب أوهامي، لكن صدى الكلمات كان أصدق من أن يكون وهماً. حاولتُ أن أستدير، وساعدني المقعد على الانعطاف نحو مصدر الصوت. وهناك كانت… واقفةً أمامي بكامل حضورها، بنفس الجمال، بنفس النقاء، كأنها خُلقت الآن من جديد.
غمرتني سعادةٌ لم أعرف لها مثيلًا، وغسلت دموعي وجهي قبل أن تسعفني الكلمات. لم أسألها كيف عادت، ولا بأي طريق عبرت حواجز الغياب. لم يكن يهمني سوى أنها أمامي، تنبض بالحياة، وتمنحني من عينيها يقينًا أن المعجزات ممكنة.
في تلك اللحظة، لم أعد أرى العالم حولي، كأن كل شيء تلاشى إلا هي وأنا. أدركتُ أنني كنتُ محقًا حين قاومتُ اليأس، وأنني لم أكن أقاتل عبثًا. لقد عادت، ومن أجلها فقط كنت أحيا… وما زلت.





































