في خضم التحولات العنيفة التي عصفت بالسودان منذ اندلاع الحرب في 15 أبريل 2023، يلحّ علينا سؤال عميق: أين ذهب ذلك الحراك الشبابي الواعي، المبادر، المدرك، المتطلع؟
ذلك الجيل الذي كان يصنع النقاش السياسي في النوادي، ويغذّي منصات التواصل الاجتماعي بحيوية الرأي، وحرارة النقاش، وشغف التغيير. أين اختفى؟ وهل هذا الغياب عرضي؟ أم أنه مؤشر على ما هو أعمق وأخطر؟
لقد بدا، في الشهور الأخيرة، أن المجتمع الذي فجّر ثورة ديسمبر المجيدة، ودفع ثمنها دمًا ودموعًا، قد خفَت صوته وركن إلى الزوايا البعيدة. لم تعد النقاشات السياسية جزءًا من المقاهي، ولا من يوميات النوادي الثقافية، ولا حتى من فضاءات التواصل الرقمي التي كانت تضج بالحراك والتحليل والمواقف.
فما الذي تغيّر؟ وهل نحن بإزاء تحوّل اجتماعي؟ أم انهيار نفسي؟ أم قمع خفيّ لا يُرى لكنه يُحسّ؟
من الواضح أن قانون الطوارئ المفروض بعد الحرب، وإن لم يُفعَّل بشكل شامل وعلني، قد نجح في خلق رقابة ذاتية صارمة. لم تغب النقاشات السياسية لأن الشباب لا يهتمون، بل لأنهم باتوا يخشون العواقب في ظل غياب الضمانات وغياب الدولة. حتى أولئك الذين ناصروا طرفًا من أطراف الصراع، تراجعوا وانكفأوا بعد أن تَبيّن لهم حجم الكارثة الوطنية، وسقوط خطاب الاستقطاب.
ما نشهده اليوم ليس صمتًا ناتجًا عن لا مبالاة، بل هو في جوهره تعب جماعي، وارتباك في البوصلة، وخوف من المصير.
انسحب كثير من الناشطين إلى الهامش، أو اضطروا إلى الفرار إلى الخارج، حاملين معهم وعيهم وتجاربهم إلى ساحات أخرى. وما تبقّى منهم في الداخل، انشغل، مُرغَمًا، بأساسيات الحياة: الأمن، السكن، الغذاء، النجاة.
وبات العمل العام في نظر كثيرين مخاطرة غير محسوبة في واقع بلا دولة، وبلا أفق واضح.
لكن هذا لا يعني أن الوعي قد مات، أو أن الثورة قد انتهت.
بل إن ما يجري ربما يكون هدوءًا ما قبل الموجة الجديدة من التفكير والتنظيم والعمل.
إن تلك الشحنة التي فجّرتها ثورة ديسمبر في نفوس السودانيين، لا تزال حاضرة، وإن بدت ساكنة.
لا تزال تختمر تحت الرماد، وتنتظر لحظة بعث جديدة، أكثر نضجًا، ووضوحًا، وتماسكًا.
السؤال الكبير الذي ينبغي أن نطرحه اليوم، ليس فقط: "أين ذهب الناشطون؟"، بل:
"ما الذي يجب فعله لاستعادتهم؟"
كيف يمكن إعادة بناء الثقة، وتجديد الأمل، واستعادة الصوت؟
وهل يمكن لحراك سياسي جديد أن ينشأ من قلب هذا الركام، دون أن يكرر أخطاء الماضي؟
إننا بحاجة إلى فتح هذا النقاش بجرأة، لا كنوع من الحنين، بل كخطوة أولى نحو استعادة المجال العام، وتحريره من الخوف، ومن الانكسار.