كانت خطواتها بطيئة، تجرُّ خلفها أثقالًا من الخوف والحيرة. تسير على استحياء كأنها تمشي على أطراف قلبها، لا على الأرض. ثوبها الفضفاض يتمايل مع أنفاسها المتقطعة، وشعرها الملقى على كتفيها بدا كظلٍّ باهتٍ لحزنٍ عميق. لم تكن تصدر أي صوت، لكن دموعها كانت كافية لتوقظ في البيت كل إشارات القلق.
في عينيها الخضراوين كان البحر هائجًا، لكن أمواجه مكبوتة. كل دمعة كانت تحمل تاريخًا طويلًا من الكتمان، وسنواتٍ من الأسرار التي ضاقت بها الروح. جلست في زاوية الصالة، ضمّت يديها إلى صدرها، وراحت تحدّق في الأرض كأنها تبحث بين بلاطها عن إجابة.
لاحظت الأم الشرود في نظرتها، ذاك الشرود الذي يشبه الغياب المؤقت عن الحياة، فاقتربت منها بخطوات متوجسة، ثم التفتت نحو زوجها الذي كان يجلس في الفناء الأمامي للبيت، وهتفت:
– "يا رجل… تعال! ابنتك تموت من البكاء أمامي ولا تنطق. هناك أمر جلل… لا أدري ما هو، لكنني أعرف أن دموعها هذه ليست عابرة."
قفز الأب من مقعده كأن قلبه دُفع بقبضة قوية، وهرول نحوها، حتى كاد أن يتعثر بعتبة الباب. جلس أمامها مباشرة، أخذ وجهها بين يديه ومسح دموعها بأنامل مرتجفة، وقال بصوتٍ فيه مزيج من الخوف والحنان:
– "يا وردتي، ما الذي جرى؟ من تجرأ على جرح قلبك؟ قولي، وسأجعل الأرض ومن عليها جحيمًا لمن أهان هذه العينين."
رفعت رأسها، نظرت إليه نظرة امتزج فيها الحنين إلى صدره الذي طالما احتمت به، مع خوفٍ أسود من أن تنهار حياته لو علم بالحقيقة. لوهلة أرادت أن تصرخ، أن تحكي كل شيء دفعة واحدة، لكن شيئًا ما عقد لسانها. شعرت أن كلماتها ستكون كالرصاصة، إن خرجت قتلت من أمامها.
عامان من الكتمان كانا يقفان بينهما الآن كجدارٍ شاهق. كانت تعرف أن ما حدث لا يمكن أن يمر دون أن يترك ندوبًا غائرة في قلبه. ترددت، عضّت على شفتيها، ثم أسندت رأسها على الجدار محاولة الهروب من عينيه.
تدخلت الأم فجأة، وكأنها شعرت أن اللحظة قد تنفجر. قالت بسرعة وهي تحاول تحويل الحديث:
– "دعها يا رجل… ربما أمور عابرة، سنعرفها لاحقًا. تعال، هناك ما أريدك أن تراه."
لكن الأب لم يتحرك، لم يلتفت حتى إليها. ظلّت عيناه مثبتتين على ابنته، كأن الدنيا انكمشت حتى صارت هي وحدها في قلب المشهد. نهض وأمسك بيدها برفق، ثم قال بصوت خافت لكنه لا يقبل الجدال:
– "تعالي معي."
قادها إلى غرفتها، أغلق الباب بإحكام، ثم جلس على حافة السرير وأشار إليها بالجلوس بجواره.
– "الآن… لا هروب. أخبريني بكل شيء. أريد أن أسمع منك، أنت، لا من أحد آخر."
كانت الكلمات ثقيلة على لسانها، لكنها شعرت أن الصمت أثقل منها بكثير. أخذت نفسًا طويلًا، وبدأت:
– "يا أبي… قبل كل شيء، أطلب منك السماح. ربما أخطأت… أو ربما ظننت أنني أحميك. منذ ثلاث سنوات… وقعت في الحب. كان شابًا من القرية المجاورة، نحمل لبعضنا ودًا عميقًا. تزوجته في السر، وطلب مني أن نكتم الأمر حتى لا تتأثر العلاقة بيننا وبينك. ووافقت… كنت أعتقد أنني أفعل الصواب."
اهتز صوتها، وتدفقت دموعها من جديد وهي تضيف:
– "اليوم… مات. رحل فجأة، دون وداع. لم يحضر جنازته أحد… لا أهل، ولا أقارب، ولا حتى جيران. وكأنه خُلق وحيدًا، وعاش وحيدًا، ومات وحيدًا."
ظل الأب صامتًا، كأن الكلمات التي سمعها تحتاج وقتًا لتجد طريقها إلى وعيه. كانت تحدّثه وهي تراقب أنفاسه التي بدأت تثقل، وملامحه التي شحب لونها. حاول أن يقول شيئًا، لكن شفتيه لم تتحركا. وفجأة، مالت رأسه إلى الأمام، وسقط على الأرض.
صرخت الفتاة، هرعت الأم إلى الداخل، اجتمع أهل البيت، وحملوه بسرعة إلى المركز الصحي القريب. لكن قلبه كان قد استسلم، أصيب بجلطة حادة، ولم يمهله القدر حتى يسمع منها ما تبقى من الحكاية…