في مساءٍ عادي، وبينما كنت أتابع نشرة التاسعة، مرّ خبر سريع على لسان المذيع: الحكومة شرعت في ردم المياه الراكدة وفتح المصارف، ثم انتقل مباشرة إلى قضية التعليم، معلنًا أنّ وزارة التعليم العالي وجّهت بفتح المدارس بحسب أوضاع المدن. خبرٌ قصير، لكنه كان كفيلًا بأن يثير في داخلي قلقًا عميقًا، ويعيد إلى الذاكرة تلك الأسئلة المؤرقة التي تلاحقنا منذ عقود: لماذا يبدو التعليم في السودان وكأنه يسير عكس تيار العالم؟ ولماذا ما زلنا ندور في حلقة مفرغة من التجريب والارتجال؟
منذ الاستقلال، ظل التعليم موضع جدلٍ دائم، وميدانًا للصراع بين الرؤى والأيديولوجيات. لم تُبْنَ سياسات تعليمية على أساس علمي راسخ، وإنما جرى التعامل معه وكأنه ورقة سياسية قابلة للتوظيف في أي لحظة. ولهذا، فإن التغييرات التي حدثت في السلم التعليمي – من (8–3) إلى (6–3–3) – لم تكن سوى استجابة جزئية لمطالب متراكمة، لكنها لم تلامس جوهر الأزمة. فالمشكلة ليست في عدد السنوات وحده، بل في فلسفة التعليم نفسها، وفي غياب رؤية وطنية عميقة تضع السودان في سياق عالمي معاصر.
العالم من حولنا يشهد تحولات كبرى: ثورة رقمية تعيد تعريف المعرفة، أنظمة تعليمية مرنة تراعي الفروق الفردية، انفتاح واسع على اللغات والتكنولوجيا، وربط وثيق بين التعليم وسوق العمل. أما نحن فما زلنا نحمل إرث العزلة التاريخية التي فرضتها الأنظمة المتعاقبة، بدءًا من سياسات الاستعمار التي عزلت مناطق بأكملها عبر "قوانين المناطق المقفولة"، مرورًا بالأنظمة الوطنية التي ورثت تلك العقلية، فاختزلت التعليم في كونه أداة للسيطرة على العقول لا لبنائها.
لقد أصبح المنهج في كثير من الأحيان انعكاسًا لأيديولوجيا الحاكم، لا مرآة لحاجات المجتمع. وهنا يكمن الخطر الأكبر، لأن التعليم حين يُسَيّس يفقد دوره كمحرّك للتنمية ويصبح أداة لإعادة إنتاج الجهل والولاء الأعمى. هكذا وجدنا أنفسنا أمام أجيال تتخرج من المدارس والجامعات دون أن تمتلك أدوات التفكير النقدي أو القدرة على المنافسة في سوقٍ عالمي مفتوح.
نتيجة هذه السياسات العشوائية أنّ السودان بات معزولًا عن حركة التعليم العالمية. ففي الوقت الذي تتجه فيه الدول إلى إدخال الذكاء الاصطناعي في قاعات الدراسة، وربط البحث العلمي مباشرة بخطط التنمية، ما زالت مدارسنا تفتقر إلى الكتاب الموحّد، والطالب لا يجد كرسيًا يجلس عليه، والمعلم مثقلٌ بهموم المعيشة أكثر من اهتمامه بتحضير دروسه. هذه الفجوة المتسعة بيننا وبين العالم جعلت نسبة الأمية ترتفع بشكلٍ مقلق، حتى بين من نطلق عليهم "متعلمين". إنّها أمية جديدة، أمية في التعامل مع التكنولوجيا والعلوم الحديثة، أمية في لغة العصر ومهاراته، وهي لا تقل خطورة عن الأمية الأبجدية التقليدية.
سياسة التوسع غير المدروس في الجامعات والمدارس زادت الطين بلة. فبدلًا من أن يكون الانتشار مقرونًا بجودة المناهج وتأهيل الأساتذة والبنية التحتية، صار مجرد زيادة في الأرقام: مبانٍ بلا روح، شهادات بلا معرفة، وخريجون بلا فرص حقيقية. وهذا التوسع أفرز حالة من التخمة الكمية على حساب النوعية، ليغدو التعليم عبئًا على الدولة والمجتمع معًا، بدلًا من أن يكون رافعة للنهوض والتغيير.
المعضلة الكبرى أننا ما زلنا نتعامل مع التعليم وكأنه شأنٌ داخلي مغلق، بينما هو في جوهره قضية انفتاح وتفاعل مع العالم. لا يمكن أن نواكب العصر إذا ظللنا نُدرّس مناهج تعود إلى عقود مضت، ولا يمكن أن نلحق بالركب إذا كانت لغة التدريس نفسها تعيق الطالب عن الوصول إلى مصادر المعرفة الحديثة. إنّ العزلة اللغوية والفكرية التي نعيشها اليوم أشبه ما تكون بحالة "المناطق المقفولة" التي عاشها السودان في عشرينيات القرن الماضي، لكنّها هذه المرة تُمارس على مستوى أشمل، فتغلق العقول بدلًا من أن تغلق الحدود.
لهذا، فإن إصلاح التعليم لا يمكن أن يكون بقرارات مرتجلة أو بتغيير شكلي في السلم الدراسي. هو بحاجة إلى علاج جذري متكامل يواجه مكامن الخلل كافة: من وضع رؤية فلسفية واضحة للتعليم السوداني، إلى تطوير المناهج بعيدًا عن هيمنة الأيديولوجيا، وتحديد لغة تدريس تفتح الأبواب لا أن تغلقها، وبناء شراكات حقيقية مع المؤسسات العالمية لضمان مواكبة التطور العلمي.
التعليم هو خط الدفاع الأول ضد الأمية والجهل والعزلة. وإذا لم نستيقظ اليوم لإصلاحه بجرأة وشجاعة، فسوف نجد أنفسنا بعد سنوات قليلة أمام جيلٍ معزول عن العالم، عاجز عن مواكبته، يعيش في عزلة فكرية وعلمية تُعيد إنتاج التخلف بأشكال جديدة. وكأننا ندور في حلقة مفرغة منذ مائة عام، نكرر أخطاء الماضي ونستسلم لقدرٍ من الفشل يمكن تجاوزه إذا توفرت الإرادة والرؤية.
إنّ المعركة الحقيقية التي ينبغي أن نخوضها ليست فقط في ميادين السياسة أو الاقتصاد، بل في قاعات الدرس وصفوف المدارس. هناك يتحدد مستقبل السودان: إما أن نختار الانفتاح على العالم وبناء تعليم عصري يعيدنا إلى موقعنا الطبيعي بين الأمم، أو نستمر في عزلة قاتلة تُغذّي الأمية وتعمّق الفجوة وتتركنا على هامش التاريخ.