ليس أكتوبر عند السودانيين مجرد شهر يطل في تقويم السنة، بل هو موعد مع الذاكرة وجرسٌ يوقظ الحلم في أعماقنا. على امتداد ستة عقود ظلّ هذا الشهر محطّة فارقة في تاريخ شعبنا، يذكّرنا بأننا أمةٌ لا تنكسر، وأن إرادة الجماهير قادرة على صنع المعجزات مهما تعاظمت التحديات.
في أكتوبر 1964، دوّى صوت الشعب السوداني في وجه الحكم العسكري بقيادة الفريق إبراهيم عبود. خرجت الجماهير من الجامعات والمصانع والبيوت، ملتحمةً في شوارع الخرطوم وأقاليم السودان، لتعلن ميلاد أول ثورة شعبية سلمية في إفريقيا والعالم العربي. لم تكن مجرد احتجاجات عابرة، بل كانت شرارة وعيٍ جديد، فجّرت في النفوس شعورًا بالكرامة والسيادة الوطنية.
ارتبطت هذه الثورة في وجداننا باللون الأخضر، لون الحياة والتجدد، ومن هنا جاء وصفها بـ أكتوبر الأخضر المجيد. غنى لها الفنانون، وخلّدها الشعراء، حتى أصبحت جزءًا من الشخصية السودانية التي لا ترضى بالظلم ولا تقبل بالدكتاتورية.
بعد عقدين تقريبًا، حين تراكم القهر وضاق الناس بسلطة جعفر نميري، جاء أبريل 1985 ليؤكد أن جذوة أكتوبر لم تخمد. مرة أخرى خرج الشعب، واستطاع في أيام معدودة أن يُطيح بواحد من أطول الأنظمة العسكرية حكمًا.
كانت انتفاضة أبريل امتدادًا طبيعيًا لثورة أكتوبر، حيث أعادت التأكيد على أن إرادة الجماهير لا يمكن قهرها، وأن السودانيين قادرون على إعادة كتابة مصيرهم متى ما اجتمعوا على كلمة سواء.
لم يتوقف الدرس عند أكتوبر وأبريل، بل تجدد في ديسمبر 2018 حين خرجت مواكب الشباب، مسلّحةً فقط بالإرادة والهتاف: حرية، سلام، وعدالة. هذه الثورة العظيمة لم تكن وليدة لحظة، بل تراكم تاريخي لروح أكتوبر وأبريل. لكنها كانت الأوسع انتشارًا، والأكثر تأثيرًا، حيث استطاعت أن تهزّ أركان نظام استبدادي جثم على صدور الناس ثلاثين عامًا.
ورغم العثرات والانقلابات التي تلتها، إلا أن ديسمبر أثبتت أن الشعب السوداني لا يكلّ ولا يملّ في معركته من أجل الديمقراطية والعدالة.
أكتوبر بين المجد والانتكاسات
لكن أكتوبر لم يكن دائمًا مسرحًا للانتصارات. ففي 21 أكتوبر 2021، وقع انقلاب عسكري جديد، أعاد البلاد إلى أجواء التراجع والانقسام. هذه الانتكاسة لم تكن هزيمة للتاريخ، بل كانت نتيجة ضعف القوى السياسية المدنية وعجزها عن التمسك بوحدة الصف وحماية مكتسبات الثورة. فالتاريخ لا يخذل الشعوب، وإنما البشر هم من يخونون أحلامهم بالتنازع والتشرذم.
أكتوبر الحاضر.. سلام مع الذات
واليوم، ونحن نعيش أجواء حربٍ مدمّرة أشعلتها ميليشيا الدعم السريع بزعامة آل دقلو، يظلّ أكتوبر حاضرًا في الوجدان. إنه ليس مجرد ذكرى، بل دعوة إلى أن نصنع أكتوبرًا جديدًا، أخضر بلون الأرض، ناصعًا بنقاء الدماء التي سُفكت من أجل الحرية.
أملنا أن يكون أكتوبر القادم شهر الانتصار والسلام، لا سلامًا زائفًا مع الجنجويد، بل سلامًا صادقًا مع أنفسنا، مع وحدتنا الوطنية، ومع جيشنا الذي يقاتل دفاعًا عن بقاء الدولة.
إن أكتوبر، في كل تجلياته، يثبت لنا أن التاريخ ليس صفحات جامدة، بل روح حية تتجدد فينا كلما حاول الظلم أن يخنق أنفاسنا. من 1964 إلى 1985، ومن 2018 إلى حاضرنا المليء بالجراح، ظلّ أكتوبر هو البوصلة التي تعيد توجيهنا إلى طريق الحرية.
ولذلك، حين نقول: مرحبًا بأكتوبر الأخضر، فإننا لا نحيي شهرًا في العام فحسب، بل نحيي ذاكرة شعب كامل، ونفتح الباب واسعًا أمام حلمٍ لا ينطفئ.





































