في ليلةٍ خرساء، عدتُ إلى غرفتي لا أحملُ سوى جسدٍ منهك وذهنٍ مثقل، كأنني عبرتُ سنواتٍ لا ساعات.
لا ظلامٌ يكتمل، ولا ضوءٌ يرحم. كلّ شيءٍ مُعلّق بين غفوةٍ لا تأتي وصحوٍ بلا معنى.
العالم خارج الجدران يواصل ضجيجه، وأنا هنا، أتمددُ كغريبٍ في وطنٍ من الصمت.
فكّرتُ: إن نمتُ، ربما لا أصحو. وإن لم أنم، قد أنهار.
أغمضتُ عينيّ لا طلبًا للنوم، بل رغبةً في الانسحاب.
لكن الملل – ذاك الزائر الثقيل – تسلّل إليّ، جلس إلى جواري، وتمدد بوقاحةٍ على الوسادة، كأنّه يعرفني.
استسلمت.
نهضتُ إلى الشرفة، أستنشق ما بقي من أوكسجين الحياة، وأتحسس الزمن من خلال السماء.
كانت المدينة متلألئة، تمدّ الضوء كأنها تقول: حتى في التعب، ثمة جمالٌ يُصرّ على البقاء.
لم أستطع مقاومة نداءها. شعرتُ بحاجةٍ للهروب، إلى ركنٍ صغير ألجأ إليه، ولو لساعة.
قررت أن أمضي إلى الكافيه القريب.
نزلتُ بخطى متثاقلة، كلّ خطوةٍ تنطق بالضيق، كأن الأرض تئن تحتها.
في طريقي، لم أكن سوى ظلٍّ لرجلٍ يتشبّث بالحياة عبر فنجان قهوة.
وصلتُ.
استقبلتني حسناء، بوجهٍ مريحٍ لا يُحسن التكلّف. ابتسمت، وأشارت إليّ أن أتبعها.
قادتني إلى غرفةٍ جانبية، هادئة، مضاءة كما لو أنّها صُمّمت خصيصًا لأجل غرباء مثلي.
جلست.
بعد لحظات، عادت تمشي بخفّة الماء، تحمل صينيةً عليها فنجانٌ صغير.
وضعته أمامي بصمت، ثم صبّته كما لو أنّها تسكب اعترافًا قديمًا في حضن الليل.
ارتشفت.
آهٍ... ما هذا الطعم؟
لم تكن قهوةً فقط.
كانت ذكرى.
كانت حياة.
في تلك اللحظة، لم أشرب القهوة، بل شربتُ نفسي.
تذوّقتُ مرارة الأيام، وسُكّر التفاصيل المنسية.
كان الفنجان بسيطًا... لكنه انتشلني من الغرق، وأعادني – بهدوء – إلى شرفة الحياة.