هي عندي ليست مجرد مشروب، بل نافذتي الصغيرة التي أطلّ منها على نفسي كلما ضاقت الدنيا و تبعثرت أوراق الأيام.. فأهرب من تلك المناغصات بفنجان قهوتي وأعود إليه… الذي أعرفه ويعرفني لتشعرني بالسعادة...
ومن الطقوس الرائعة لشربها ومجالستها: اختيار مكانًا هادئًا، لا يُسمع فيه إلا صوت السكينة، وكأن العالم يتراجع خطوة إلى الخلف ليترك مساحة لروحي أن تتنفس.
هناك، في ذلك الركن الهادئ، كانت القهوة تُصلح ما أفسده الزحام، الأيام والحياه لتُرَتِّب شتات الذهن، وتُصالحني مع نفسي بلا جهد أو ملل .
لم تكن جلسة للهروب ….
بل كنت التقي بنفسي في موعد ثابت لا يتأخر.
اصنع قهوتي ببطءٍ مقصود، كما لو أنها تَلُمُّ شَعث روحي مع كل حركة، ومع كل رائحة صاعدة تهدهد القلب.
وحينما أرفع الفنجان لأول رشفة أشعر كأنها تُعيد ترتيب الكون داخلي : كل ما كان يقلقني يهدأ، وكل ما كان يرهقني يذوب، وكل ما كان يعلق في صدري ينساب هادئًا… كما لو أن البنّ يفهمني والبندق يربّت على كتفي .تلك هي نوعي المفضل والأجود.
قهوتي لم تخني يومًا، بل كانت الأقرب إلى قلبي ، والوفيّة التي لا تتبدل. فتُعيدني إلي نشاطي ، تُوقظ ذهني، وتجمع شتات روحي من جديد.
أقول في قهوتي ما أقوله في رفيقتي الوفية …
فكلاهما كان وطنًا صغيرًا ألجأ إليه عندما تعجز كلماتي ،
وكأنني ألتمس يدًا خفية تنتشلني من فوضى العالم،
وتُجلسني أمام ذاتي … في سلام
وتلك ما ميزها عندي، وجدتها بوشٍّ واحد، لا تتلوّن ولا تتشكل بمئة وجهٍ مثل معظم الناس. صادقة في نكهتها، ثابتة في حضورها، ولعلّ ذلك ما جعلها الأقرب لقلبي؛
ففي عالمٍ يتغيّر فيه كل شيء،
تبقى القهوة بالبندق وجهًا واحدًا…
وجهًا أعرفه ، واطمئن إليه،
هي الصديقة التي لا تُجيد الخداع،
والرفيقة التي إن حضرت… عاد كل شيء إلى مكانه.






































