دخلت محل ( الهامبورغر) والفرحة تشع من عينيها وقد بدا على ملامحها بريق الامل، والسرور والانتصار. ففي هذا اليوم استطاعت ان تؤكد نفسها وشخصها، فأحست ان رأسها يرتفع عاليا و صدرها يعلو افتخارا، و مشيتها تزداد زهوا و خيلاء.
ها هي اليوم تقف على باب النجاح، بعد أن قطعت مراحل تنوع فيها عذابها، تعددت فيها متاعبها، و تعاستها. ها هي اليوم تنفض عنها كل غبار الحزن و الألم الذي تجمع أكداسا على جسمها، على عقلها، أعمى عينيها.
اليوم تنزع عنها ما ألبسته إياها السنون الفارطة من يأس و شقاء، إنها تولد من جديد، إن حياة جديدة ستبدأ بالنسبة إليها.
لكم نظرت و أعادت النظر إلى الشهادة العالية التي حصلت عليها و كأنها تقرأ عليها آمالا و أحلاما و أفكارا ستحقق في المستقبل و قد أخذها الذهول، و شردت عن كل ما حولها و ها هي مستمرة تتابع بكل دقة كل الحصص الدراسية حتى تتوج فرحتها بنجاحها الأكيد.
طافت بنفسها كل هذه الأفكار، و هي تتقدم من صاحب المحل يناولها صحنها الصغير المصنوع من الورق المقوى اللامع.
أحست ببعض النظرات الفاحصة تتعلق بوجهها بعض الوقت ثم تسقط عند قدميها.
داستها في كبرياء ثم انتحت بصحنها جانبا، و قد ولت وجهها الحائط و وضعت محفظتها بين قدميها لأن الوجبة السريعة تستدعي الوقوف لتناولها.
أخذت تقضم عيدان البطاطا المقلية و بعد لحظة استرعى انتباهها شاب يقف إلى جانبها محدثا صديقه و قد ولاها ظهره.
كان طويل القامة، أنيقا، لم تكن تريد أن يستدير ناحيتها حتى لا ينظر إليها من عليائه، فهي قليلا ما رافقت الأشخاص ذوي القامة الطويلة ، حتى زميلاتها، كانت تتجنب طويلات القامة منهن، لأنها تشعر بالاشمئزاز و التقزز حينما يصبون عليها نظراتهم من فوق، و كأنها شيء صغير، يستحق الرثاء، رغم أنها معتدلة القامة و رغم أنها تثق بنفسها ثقة عمياء، الشيء الذي ربما كان يسلط عليها هذا النوع من البشر، ليس معنى هذا أنها لا تحب هؤلاء الأشخاص.
بل إنها في هذه اللحظة بالذات تحب جميع الناس كيفما كان نوعهم، و كيفما كانت تصرفاتهم، ففرحها يطغى عليها، و حب الحياة يتدفق في شرايينها بعنف، تكاد تسمع خريره.
و مع ذلك، فهي تريد ألا ينظر إليها هذا الشخص الواقف إلى جانبها، تمنت أن يظل على حالته إلى أن ينتهي أكلها فتذهب.
لكن في نفس اللحظة التي طافت بمخيلتها هذه الأمنية استدار نحوها كمن صعق و إذا نظراته الحادة يصبها عليها، فتحرقها و هي تحاول أن تتجلد، تحاول ألا ترفع بصرها إليه.
لن ترفع بصرها نحوه، فلن تجد في نظراته غير شعاع من الرثاء و السخرية من قامتها التي لا تكاد تصل إلى حدود كتفه،لاسيما و أنها تلبس حذاء ذي كعب قصير جدا.
لكن نظراته أخذت ترشقها في عنف.
( ما بال هذا الأرعن، ماذا يريد؟.)
و كان لابد من أن ترفع بصرها إليه رغما عنها، لكن نظرتها كانت محملة بنوع من الاستنكار و التعجب و الاستهزاء مما يفعله، و كأنها تقول له:
( هذا تصرف لا يليق أبدا بالأشخاص ذوي القامة الطويلة مثلك ثم إني أعرف جيدا هذا النوع من النظرات، فلا تتعب نفسك).
لكن نظرته لم يكن فيها الرثاء الذي كانت تنتظره، و لم يكن فيها التعالي أو الكبرياء، بل كانت تحتوي على شعاع محرق شد بصرها إليه لحظة،
ثم بسرعة عادت إلى ما كانت عليه و قد أحست بسخونة شديدة تتجمع في أذنيها و جاء سؤاله يبدد خجلها و حيرتها من أمره:
_أظن أنني قد سبق و أن تعرفت إليك، التقيت بك في مكان ما، رأيتك، تكلمت معك، انتظري أظن أنني أعرفك، ملامحك ليست غريبة علي؟! .
و خرج صوتها في تمتمة مبحوحة:
_أنا لا أعرفك، لم ألتق بك أبدا، لا أظن أني رأيتك في مكان ما.
و وجدت نفسها ترفع بصرها إليه مرة أخرى، هذه المرة لتتعانق نظراتهما طويلا، و لترتفع تمتمتها معلنة.
_إنني متأكدة أنني لم أعرفك و لم يسبق لي أن رأيتك أبدا.
لكنه انطلق في ثقة من أمره.
_يجب أن أتذكر، لا بد و أني رأيتك في مكان ما ، يجب أن أتذكر.
و أخذ يسألها كمن يريد أن يتحقق من شيء ما.
_قولي، ألست خديجة ، إذا أجبتني فإني سأتأكد من الأمر، قولي، لا تخشي شيئا، ماذا تفعلين؟
و حتى لا يظن الظنون و حتى تتخلص منه بسرعة و حتى تثبت لنفسها أنها تسير بخطى ثابتة في طريقها نحو النجاح، و أنها فخورة بمهمتها في الحياة ردت عليه مخبرة إياه بكل الأعمال التي تقوم بها وهي كثيرة، مؤكدة له أنه رغم حجمها الصغير فهي تقوم بعدة أشياء.
نظرت إليه لتعرف أثر تصريحها عليه، قرأت في عينيه نظرة تحتوي على بعض التقدير، سرعان ما تبددت تحت ظل ابتسامة علت شفتيه لم تعرف معناها.
_لا شك الآن أنك لا تعرف فتاة تسكن مدينة فاس و تتابع دراستها في مدينة الرباط و تقوم بكل هذه الأعمال أليس كذلك؟
_لكنني أعرفك، أشعر أنني أعرفك.
استدار لحظة يحدث زميله الذي انتهى من أكله و الذي أراد الذهاب.
في لحظة حديثه كانت تريد أن تندثر، أن تختفي، فلما يعاود النظر إليها لا يجدها أمامه.
و بسرعة حاولت أن تنتهي من الأكل، و تقدمت من صاحب المحل تريد أن تدفع ثمن الوجبة لكنها و جدته و رغما عنها يدفع ثمن حصتها، حاولت الاحتجاج، و لكنه أصر، و لم يكن من الممكن أن تتمادى في الرفض.
و برقة و هدوء نظر إليها و هو يطلب منها أن ترافقه إلى المقهى المجاور لشرب شيء ما فمن عادته شرب شيء ما بعد الغداء.
و حتى لا تحرجه أو تخرجه عن عادته، رافقته، و في المقهى، استمر يسألها عن تطلعاتها، هواياتها، أجابت عن أسئلته كلها، بتحفظ، لكنها أجابت عنها جميعها، و هي تظن أنها لن تراه بعدها.
و أنذرته أخيرا أن ميعاد سفرها قد حان و أنها يجب أن تذهب.
رافقها إلى محطة الرباط المدينة ممتعضا، حاول أن يثنيها عن عزمها، فالوقت مازال مبكرا خاصة و أنه لا شيء وراءها.
و هناك و هي تستقل القطار، وقف على رصيف المحطة طويلا كعمود النور إلى جانبه.
تطلعت من النافذة تنظر إليه، لم يشر إليها بالوداع قرأت على ملامحه الأسف و الامتعاض.
أغرق على العكس من ذلك يداه في جيبيه، فتكورت قبضتيه على أعلى فخديه، تخيلت أنه سيوجه لها لكمتين من تحت ثوب سرواله.
ابتسمت في شبه انتصار.
لقد استطاعت هذه المرة أن تفلت رغم شباكه، أحست ببعض الفخر و اللذة بمقدرتها على بناء جدار من السمك و المتانة لا تهدمه الزلازل العاطفية، بينها و بين كل من يبرز لها أنيابه مثل هذا الذي أثارت حفيظته الآن، الآن.
لكنها أحست أن نهر الحزن يجرفها و هي تعرف أن لا عودة منه.
إنها تريد من ينتشل جثثها التي تتأرجح بين أمواجه فتعود إليها الطفولة و الفرح العتيق، لا من يقف مصلوبا على عتبة جسدها، متهيبا، خائفا يخشى طغيان أمواج نهرها الأبدي.
أدى بها تأرجحها بين الأمواج إلى النوم، غفت و قد أسندت رأسها بهدوء إلى أعلى مقعدها، لم تهتم لحركة القطار و دويه، ولا إلى الرائحين الغادين و لا الداخلين إلى عربتها أو الخارجين منها.
مر على شفتيها شبح ابتسامة و هي تراه واقفا و طوله يوازي طول عمود النور، قريبا منه، كان وجهه الرمادي ينظر إليها، نظرات جائعة، مملوءة اشتهاء، غضت الطرف لحظة، أعادت النظر إليه، اصفر وجهه فجأة ـ اندهشت، ازدادت ضربات قلبها، أحست بدمها الجامد يغلي داخل جسدها، كان التعب بدأ يلوح على قسماته، و قد تهدل كل شيء في وجهه.
أحبت أن يغادر المحطة، حتى لا تراه، لم تتحقق أمنيتها بل رأت يده الطويلة تمتد، تزداد امتدادا، طولا، تقبض على حافة نافذة عربتها.
و رأت وجهه يتمطط، يقترب من زجاج نافذتها، أصابها الرعب، تراجعت إلى الخلف، رأت عينيه تشع منهما نظرات غريبة، رأت شفتيه تتحركان تهمسان:
(لماذا يا ليلى الضائعة في الغابة تركت البيت الآمن و أتيت إلي أنا.
أنا .)
تمتم الكلمة الأخيرة. لم تسمعها.
تنقلت عيناها من أصابع كفه القابضة على عمود النافذة الزجاجية و حاجبيه و أنفه و فمه و لحيته في فزع...
رأت شعرا أسود يبدو رطب الملمس، تملكها هلع كبير أرهفت السمع وسط جحيم الرعب الذي استولى عليها سمعته يقول:
_ أنا. الذئب.
لم تستطع أن تصرخ و هو كان ما زال ممسكا بقبضة من حديد على حافة النافذة، عيناه تسيلان اشتهاء و هو يلهث، أمسكت حقيبة يدها، أرادت أن تلوذ بالفرار أحست أن أمواج نهر حزنها مازالت تتلاطمها . لاحظ الهلع و التوسل على جبينها، أشار بعينيه أن تستسلم.
و ضحك ، ضحك من جديد.
نظر إليها من جديد نظرات مملوءة حقدا و كراهية، و كأنه يتوعدها و كأنه يقول لها: (ستقعين تحت قبضتي لا محالة).
ازداد انكماشها داخل أمواج تعاستها و حزنها رفيقها الأبدي. أفاقت على صفارة الإنذار، و على صوت يعلن عن وصول القطار إلى محطة (سيدي قاسم).
نزلت بسرعة من القطار لترمي برأسها تحت أول صنبور صادفته في تلك المحطة. بحثت عيناها عن محل لبيع الجرائد، اشترت جريدة العلم، طالعتها في أعلى الصفحة حكمة:
(من يهن، يسهل الهوان عليه).
بصقت على الأرض، لم تدس بصاقها كعادتها، أرادته أن تبقى صفعة (صفعة لمن؟) (للجميع) سيطر عليها الحزن من جديد، فكرت أن تمسح ما فعلته بعقب حذائها ذي الكعب القصير جدا، عادت بخطوات إلى حيث بصقت.
زعقت صفارة إنذار القطار بالاقلاع.
بصقت مرة أخرى، لم يهتم أحد لوجودها و ضعت رجلها على درجة المقطورة.
قبل أن تصعد، أدارت وجهها، نظرت خلفها لاحظت عدة أعمدة نور واقفة متصلبة، متجهمة طويلة. طويلة على الرصيف في صف واحد تذكرته.
أسرعت بالالتحاق بمقعدها.