ضغط على أسنانه وقال في غيظ :
ـ ( لو تمكنت لنسفت سنين عمري ومسحتها من الزمن ، فهي مجدبة ، مقفرة ، لا مطر ، لا زرع ، الأرض كانت متشققة ، يابسة ، جافة ، ووجهها كالحا .
كل الشجيرات أصبحت قزعية ، فقد تيبس عودها ، و قد غطاها الحزن والسواد ولم يبق منها إلا رؤوس مدببة لبست ثوب الموت ).
أطال النظر إلى تلك الأشجار المنكوبة ، وإلى السماء الجذلانة ، الزرقاء الصافية وإلى أشعة الشمس التي تتناثر هنا وهناك بين أغصان غاضبة مكفهرة ،ذابلة ..
كان عاجزا تماما أمام هذا الجفاف الذي طال كل شيء في حياته . أحس ببؤس وتعاسة كبيرين جدا ، وتأكد له أن حريته ناقصة ، خاصة وأن هذا الجفاف ينقض على كل شيء في حياته ليحيله حطاما .
مرت عدة أسابيع ، لم يحادث فيها أحدا ، ولم يختلط بأحد ، وكأنه راهب في منفى ، وأي منفى ..
تكونت بجسده الهزيل تجاويف عميقة على مستوى العنق والصدر ، وحمى الغيظ تأكل داخله ، وتذيب ما تبقى من جذوة حياته .
لم يكن يهدف لشيء أو لمكان معين ، كان يسير كعادته على الطرقات ، يتطلع تارة إلى السماء وتارة أخرى إلى الأرض لمدة قد تطول أو تقصر وكأنه ممسوس .
لم يشعر يوما برابط ما يربطه بمن حوله من الناس ، فكلما مر بهم أو بأحدهم فإنه يشعر أنه مختلف عنه تمام الاختلاف .
لم يعد يحتمل الدفء مهما كان مصدره ، الحمى التي كانت تسكنه كانت تشعره بالتقزز ، من كل حياته .
الشمس الحارقة أخذت تأكل من أحشائه ومن حواشي جسده كله ،
شمس حارقة استوطنته واستولت على كل محيطه وكأنه ليس من هذا العالم الذي ينعم فيه الآخرون بالهدوء والطمأنينة .
إنها تغمره حتى النخاع وتسبح في دمه ، فيحس أن حمما ثائرة تتدفق داخله وتحول طقطقات عظامه إلى هدير رعد مخيف .
تبادر إلى ذهنه : ( الرعد ..؟ أين هو الرعد؟ ) لطالما انتظره طول حياته .
يجب أن يختلط بالآخرين ، أن يخرج من قوقعته ، أن يحس أنه ليس وحيدا ، وأن لا يحترق بهذه النار المشتعلة داخله .
كان يسير من غير وجهة ، شاقا تلك السهول والروابي المجدبة ،
لاح له من بعيد الطريق المؤدي إلى سوق القرية ملتويا كالثعبان ، كانت رجلاه تصطدمان بالأرض و:انه يحاول أن يقتل بهما ثعبانا ما ، لم تكن خطواته متزنة ، ولا ثابتة ، كان يرمي بهما في كل اتجاه وكأنه مخمور.
أحس أن الثعبان الخرافي الذي استولى على ذهنه قبل لحظات ، يخنق أنفاسه ، كانت هناك أطياف تسير بمحاذاته ، وتتجاوزه وكانت أخرى تسير خلفه وأخرى تمشي أمامه وهو يحاول بكل قواه عدم الاصطدام بها .
خيل إليه أنه يسير في طريق نحو جهنم الحمراء في محشر يوم القيامة.
أخذ الطريق يضيق أمامه كلما خطا خطوة من خطواته السكرانة ، طاف بذهنه أن يتوقف عن التقدم إلى الأمام والعودة من حيث أتى .
أنه في حيرة شديدة ، يريد أن يخالط الناس من جهة ، لكنه لا يريد أن يرى وجوههم المتكدرة ، المتجعدة من جهة أخرى.
كان يحشر قدميه في الطريق بصعوبة بالغة ، لكن لا بد له من الوصول إلى السوق .
ورآه ، إنه هو ، هو صديق طفولته ، شهق من الأعماق .. وأخيرا سيتحدث إلى أحد ما ..
أحس وكأن شيئا ما يخفق داخله بشدة ، شيئا ينكسر محدثا ضجة عنيفة في صدره .
صاح به بقوة :
ــ عثمان ؟ عثمان ...
استدار عثمان ناحية الصوت المشتعل بلهيب داخلي غامق ، كان وجهه كقطعة فحم سوداء ، مهترئة ، وكانت عيناه جاحظتان ، ترسلان لهيبا حارا .
في تلك اللحظة ، تجهم وجه عمر، أحس بكل الحرارة التي بداخله تتجمع في رأسه الذي يكاد أن يشتعل ووجهه كان يغلي بجميع الانفعالات كوجه جمرة في ماء .
( هكذا ، تم إحراقك يا عثمان أنت أيضا .أنت أيضا .)
رمى ببصره بعيدا في سماء حارقة ليل ، نهار ، سماء انعدمت نجومها وغاب قمرها تاركين الفرصة لليل حالك يرسل بنار ظلامه الأسود في كل اتجاه .
اقترب عمر أكثر من عثمان ، الذي لم يعره أي اهتمام .
وقف خلفه ، لكز كتفه بأصبعه وحاول أن يبتسم لكن وجهه المتيبس لم يساعده على ذلك ،.
لما استدار عثمان ، انبرى وجهه الجاف هو الآخر ، وقد طاله سواد قاتم وكانت عيناه متحجرتين، قاسيتين ، محمرتين ، وجهه لم يكن يشبه وجهه ، بل ليس وجهه بتاتا .
كان كمن أحرقته النيران للتو .
لم يدع اليأس يغزو أفكاره ، تعلم ذلك من سنوات المشقة والتعب .
بصمت ، تقدم من عثمان وبنفسه إحساس واه من الفرح ، وكان يمسح عينيه في نفس الوقت وكأنه لا يصدق ما يراه أمامه .
( أليس هذا عثمان الشاب ، الوسيم ، النشيط .. ماذا حصل له ؟ ما الذي أدى به إلى هذه الحال؟ ...
أيمكن أن يكون اكتوى هو الآخر بنيران العذاب والخوف ونيران الرصاص والشمس المحرقة هناك ؟
صاح به بصوت أكثر قوة وبغيظ :
ــ عثمان ؟ عثمان ؟ ألا تسمع ..؟
لا لم يعره أي اهتمام وكأنه في دنيا أخرى ليس فيها غير اللهب المشتعل .
بدا وكأنه ألقي به في هذا السوق ، وأنه آت من زمن آخر .
اقترب عمر منه أكثر ، تبين له وكأن صديقه غير واع بما يحدث حوله ، أخذه من كتفيه بقوة وجعله يدير وجهه ناحيته ، ليقرأ عليه كل بؤس الحياة وعنائها وشقائها .
حاول عثمان أن يفلت من قبضته لكنه أخذه بين أحضانه ، فأرعدت السماء وشقها البرق وانهمرت الأمطار مدرارا ، وقد رقصت الحقيقة عارية أمامه في أفق الكون .
أفلته أخيرا ، ودار حوله ينظر إليه بعينين غسلتها الأمطار ( إنه هو وليس شبحا من أشباح الماضي ، كتفاه العرضين هما كتفاه ، ووقفته لم تتغير ولم تنل منها النار ووجهه هو وجهه خاصة لما انهمرت عليه الأمطار .
كان عثمان ينظر إلى عمر في دهشة ممزوجة بشعور غريب لا يعرف له كنها ،ولا يتمكن من وصفه بينما عمر يتأمله ومشاعرعنيفة تتقاذفه.
أحس أنه ليس الوحيد الذي أحرقته نيران صحراء (تيندوف) لما كان محتجزا وأسيرا هناك ولما فرهاربا من تلك المخيمات اللعينة في محاولات دونكيشوتية للرجوع إلى الوطن .
ولما اشتعلت نيران رأسه كما اشتعلت شمس الصحراء القاتلة...
في شريط سريع توالت أمامه كل الأحداث وكل معاناته هو وصديقه عمر وهما يحاربان الرمال وقد تاها عن نفسيهما وعن الوجود .
ذكريات مستعجلة ، طافت بذهن عمر ، وهيمنت على دماغه ، تكاد تطرحه أرضا ، وزئيرها يكاد يصم آذانه .
لم يعد يرى أو يسمع شيئا غير شمس الصحراء القاسية وإحراقها لجسمه وفكره .
كان يكافح بكل قوته ليخرج نفسه من تلك الدائرة المحرقة من ذكريات لعينة أخذت تتلوى وتتلوى حوله كثعبان يزحف بسرعة البرق ليعمي بصره وبصيرته.
لم يعد يشعر بآلام جسده التي كانت تكويه قبل قليل وتشل حركته المتوترة وأحس أن الفراغ الذي كان يعانيه ككابوس مزعج فيما مر من الأيام الماضية لم يعد موجودا ، بل أخذ يتلاشى كالضباب .
وفجأة انفكت عقدة لسان عثمان :
ــ الجرح عميق يا صاحبي ...
وأتبع كلامه بقهقهة طويلة .
أمعن عمر النظر جيدا ، انتابه ذعر كبير ، خيم عليه صمت ذليل ، برزت معه شقوق في كل مكان ، تبتلع كل شيء ، عثمان والأطياف أيضا .
(الجرح يتسع .. ويتسع والدماء تغرق الدنيا ، يصير الجرح بحرا متلاطما أحمرا ، وأنت قابع تنظر بعينين طالهما التعفن ونظراتك متهالكة ، والنزيف لا يتوقف .. لا يتوقف ، يبحث عن صديقه عثمان ، يراه يغرق .. يغرق في بحر أحمر .
ينتفض ، يمد يديه لصديقه وهو يصرخ به أن بتشبث بهما ...
وصوت مندفع لاهث ينادي :
( الدكتور حمزة ... الدكتور حمزة ... بسرعة، بسرعة لقد تحرك المريض ....
).