بكاء وعويل يملأ أركان الغرفة يستيقظ من منامه...متسائلا ماذا حدث ....؟؟ ردت بنبرات مذبوحة ..جدى مات ...مات جدى ,,,لا حول ولا قوة إلا بالله ...الله يرحمه ..طب هتعملى إيه دلوقتى ....هسافر طبعا ...هسافر معاك طبعا....وبدأا يحزمان أمتعة السفر ,,ثم توجها إلى محطة القطار ..وفى الطريق ...كان سكب الدموع من عينيها هو حديث القطار ...وفى القطار تذكرت ذلك الجد الذى عاشت سنوات طفولتها العذبة فى بيته الرحب ...تذكرت اللعب و الهدايا وحلوى العيد ومفاجآت العطايا والمنن من سخاء الأجداد ...كان دائم الحنو والعطف عليها وعلى إخوتها ولم تكن هى إلا نتاج زواج إبنه الوحيد من أهل ذوى حسب ودين من إحدى القرى المحافظة فى جنوب الدلتا ...تسترجع الذكريات الجميلة التى مرت كشريط سينيمائي هو حسب الإنسان الحى من الذكرى وحسب الإنسان الميت من لحظات الحياة بعد الموت ...أخذ يربت على كتفيها بحنان ولطف محتضنا يديها بكلتا يديه ..نظرت بحزن إليه وعيناها مغرورقتان بالدموع ...معلش يا حبيبتى إرتاح من هم الدنيا الله يرحمه ..الحمد لله على ما أخذ وما أعطى ...لحظات قليلة ويعلن القطار وصوله إلى المحطة الأخيرة ..يصلان إلى المنزل الذى تزوجا فيه ورزقا فيه بأول مولود ..وكانا ملاصقين لجديها فى السكن ..وما أن رأت أباها حتى ألقت بنفسها بين ذراعيه ..وأجهشا بالبكاء فلقد كان رقيق النفس لا يمسك عبرة ...البقاء لله يا حاج محمد ...فى حياتك الباقية يا بنى ..يجلس بين أصحاب العزاء كأحد أفراد العائلة ...لم يطل الوقت حتى سمع غمغمة ولغط ...فيه إيه يا حاج ؟ إنتى عارف يا بنى إن أنا وحيد وماليش إخوات وعايزين حد يغسل الميت ...تيجى معانا يابنى ...
كانت مفاجأة كبيرة من العيار الثقيل ..عقدت لسانه ...فلم يحر جوابا ...كأن قطار الصعيد السريع يصرخ فيه وهو واقف على قضيبى القطار مذهولا مدهوشا ...مرت اللحظات
كأنها ساعات طوال ...فما كان منه إلا أن أومأ بالموافقة مضطرا..طرق الباب ودخل ...وكان المشهد فى الداخل مهيبا ..ذو جلال ...أربعة رجال يقفون صامتون ....جاء أحدهم بحقيبة الغسل التى لم يرها من قبل ...ووضعها بالقرب منه ...ثم اتكأ بكلتا يديه على منضدة من الصاج ذات مسرب للمياه صنعت بديلا لخشبة الغسل ...ثم بدأ بالوعظ قائلا: إن هذا الأمر هو أمانة عظيمة فمن رأى أنه ليس بقدر الأمانة ولا يستطيع كتمان السر وفضح المستور فلا يحضر معنا الغسل ...فمن رأى منكم شيئا أثناء غسل الميت فلابد من كتمانه ...فهذه أمانة وجب حفظها ,ثم دعا للميت ...وباشر العمل ...لحظات وكان الجثمان المسجى بغطاء من القماش الأبيض الرقيق ..قد نزع عنه الغطاء وإذا بصفرة الموت المهيبة تخلع القلب من الرعب فى حشاياه ..وهو يرى جسدا لا حياة فيه ..فاحتملوه على المنضدة ,,وبدأوا الغسل على سنة المصطفى .وكانت عيناه محدقتان فى عينى الميت
وهو ينظر إليهما تارة وإلى الجسد الملقى على المنضدة مثل قطعة اللحم أو كأنه فروج يتم غسله للشى فى التنور ..لا إرادة ولا إعتراض من الجثمان التى هجرته الروح ..إلى بارئها ..يقلب ذات اليمين وذات الشمال ..يدخل الماء من فيه ويخرج الغائط من إسته ...فكانت عظة الموت أبلغ العظات ..فتذكر قول أحد الصالحين عن قمة التسليم لله( كن بين يدى الله كالمغَسَل بين يدى المُغسِل ) لا إرادة بل تسليم تام بالقضاء المقدر فها هى حكمة الموت تتجلى فيمن كان يفعل مايريد الله وما لا يريده فصار بعد الموت لا يتحكم فى جسمه ولا يكون إلا ما أمر الله على هذا الجسد من أفعال الناس فيه وأمره عليه بما يريد المولى لا ما يريده الميت ..
أتموا غسل الجد الكبير الميت عن الثمانين من العمر ...ثم لفوه بالكفن ....وأصعدوه على خشبة حدباء ليحمل إلى المسجد ليصلى عليه أهله وأقرباؤه ....إنتهى بهم المطاف إلى مقابر البساتين القديمة ....كان القبر فاغرا فاه المظلم
كوحش عظيم ليأكل لحوم الموتى ويدفنها فى قعر معدته التى لا تشبع ...وما أن وضع الجثمان فى القبر وانهال التراب عليه من كل حدب وصوب حتى علا النحيب والعويل ..فلقد علمت النفوس أن هذا المدفون لن يرى بعد الآن ..وانتهى مرآه فى الزمن الحى لعوام الناس وخاصتهم وقضى نحبه فى التراب ولن تأتى معجزة لتستنقذه من بين ملكى الحساب
وصار الواعظ مخاطبا فى الناس عقولهم ومخاطبا فى القلوب الضمائر لحظات قليلة وكان الركب متجها خارج المقابر ..وفى الطريق كان هاتفه الجوال يصدر الرنين معلنا هوية المتصل ,,آلو ..السلم عليكم ..مش معقول ...ألف مبروك ...يا حبيبتى عقبال متخاويه ...أنا جاى على طول ..كان المتصل أخته تخبره بأنها أنجبت طفلها الأول ..فى اللحظة التى خرج منها من المقابر ...كانت حكمة الموت وعظته مازالت عالقة فى قلبه ...فإذا بحكمة الميلاد ...وبشره تحنو على فؤاده ...وفى المستشفى ...يحمل طفلها الصغير فى حنان ولطف ..يقبل جبين الصغير ..فى ابتسامة لا تخلو من العجب ..لقد كان يداه منذ ساعة تغسل ميتا وها هى الآن تحمل مولودا ..كانت تغسل ميتا ذاهبا إلى قبره ووارت التراب عليه وهاهى تحمل مولودا قادما للحياة ..فسبحان من بيده ملكوت كل شئ ..أعجزت حكمته الناس في يوم بل فى ساعة بل فى لحظة ..عقول الناس ومنطقهم ليعلمهم أن عظة ألم الموت وحكمته مقرونة بحكمة وجمال وبشرى الميلاد ...ما أعظمك يا إلهى وما أقدرك وما أعجزنى أنا العبد الفقير وما أحوجنى لحكمتك وأعجز عقلى عن فهمها