يبدو أننا لا نفتأ أن نفيق من حزمة نقاشات جدلية, يصطدم بها المجتمع في موضوع التراث وتنقيته بين من يرفض ومن يقبل, إلا ونُغرِق مرة أخرى في حزمة جدلية مشابهة وبأدوات جديدة أو مستنسخة, لندخل في دائرة الجدل مرة أخرى وبشكلٍ أشد ضراورة مما سبقها.
ولقد طالعتنا قنواتنا الإعلامية في الأيام القليلة الماضية, بمن يقدح بشدة في موضوعاتٍ تتعلق بالتراث الإسلامي وما به من ملفاتٍ تحتاج إلى تنقيةٍ وتشذيب, لكن للأسف بأسلوبٍ عدائي غير راقٍ, نستخلص منه في أكبر نتائجه اصطدامًا وتناحرًا مجتمعيًا لا طائل منه, ولا نجني منه إلا ويلات الفرقة والتشرذم.
ذلك لأن الذي يتلقى هذه الجدليات هو في الأصل غير متخصص في علوم القرآن أو الحديث أو اللغة وغيرها من العلوم التي تمكن الباحث للوصول إلى الأصوب في تلك الموضوعات, وبالتالي ينبري البعض في تلقف ما يسمعونه ممن يظهَرون في الإعلام ويقومون بتكراره دون دراية علمية أو بحثية مما يحتاجه الناقد, وينبرى الآخرون أيضًا -ممن يعارضون هذا التوجه- في الرد والدفاع عن التراث وأحيانًا الهجوم الشخصي, بشكلٍ يجعل الصورة النقاشية المجتمعية حلبةً للمصارعة الفكرية وليس التحاور, ودائرةً للصراع لا الاستماع.
والذي أتعجب منه أمرين أولهما: هل يكفي أي باحثٍ ولمجرد أنه أخذ شهادةً بالخارج, أن يظهر على القنوات ويلقي على العامة الغير متخصصين موضوعاتٍ جدلية تسبب الاحتقان والصدام, ؟ وثانيهما: هل يكفي أي محب ومنتمي للدين الإسلامي لمجرد أنه محب, أن يرد ويفند ويجادل أطروحات هذا الباحث الذي يلقي تلك الجدليات,؟
إن ما يطرحه هذا الباحث أو غيره, هي موضوعاتٍ تحتاج إلى علماء أفنوا حياتهم في التعرف على العلوم المتنوعة وفي دراسة الاجتهاد وقواعده وفي بحث الصائب من تلك الاجتهادات وما لم يُصِب, وهنا تقف أمامنا مسألة يطرحها علينا البعض ممن يظهرون على القنوات الإعلامية وهي, هل رأي العالم الذي يفتي بصواب الاجتهادات التراثية من عدمه هل هو رأي مُنزَّه أو مقدس بحيث لا نناقشه ولا ننتقده,؟
ولابد للرد على تلك النقطة أن نسلِّم بأن المقدس فقط هو "النص القرآني أو النبوي" -فيما يصح منه طبقًا لعلوم الحديث- أما اجتهاد العالِم, فهو يعبر عن مفهوم العالم عن النص, ومفهومه ليس مقدسًا, وبالتالي فمن الأحرى بنا أن نتجه إلى المجامع الفقهية والجامعات العلمية والهيئات البحثية لنتعرف على الرأي الأصوب نحو تفسير النصوص المقدسة, ونحو الحكم على اجتهادات الأقدمين من حيث صوابها أو عدمه.
وعلى ذلك, فيكون أيضا من الكياسة طرح تلك الجدليات -التي يطرحونها على العامة- على الهيئات البحثية التي نجد فيها رأيا مستخلَصًا من مجموع العلماء وليس عن عالمٍ واحد, وليس على العامة من غير المتخصصين أمثالي, ممن لن ينالهم من تلك الجدليات إلا البلبلة وإثارة الشقاق المجتمعي وتدمير الود في الجدالات الدائرة بين المتناحرين على منصات التواصل, والتي لا تؤدي بنا إلا إلى نتائج عبثية لا طائل منها أبدًا.