انتقلت للسكن في منزل غير الذي كنت أسكن به ، لن أقول عليه سكن جديد لأنها كانت بناية عتيقة تفوح من كل ركن من أركانه رائحة الزمن ويحمل بين طياته حكايات وأقاصيص وأفراح وأحزان من احتضنتهم حوائطها قبل أن تدهسهم رحى الأيام ليتلاشوا ويصيروا إلى لاشيء .. كان العقار فارغ تقريبا فأغلب ساكنيه أما كانوا مسافرين لخارج البلاد أو تأجير لأصحاب المكاتب ، ، إلا من سيدة شارفت أن تتخطى العقد الخامس من عمرها حسب ما أخبرني السمسار
كان صباح اليوم الأول لي في هذا العقار العتيق حيث كان مسكني أعلى البناية ومعه قطعة من السطوح ولقد اخترت هذا الطابق لأنني أهوى رؤية العالم من أعلاه لأنه يورثني شعورا بأنني أرى العالم من خارجه بل أنني لا أنتمي لهذا العالم ، خارج أحداثه وتطلعاته وطموحه وجنونه أيضا .. وقفت أستنشق نسيم الصباح من النافذة الطلة على السطوح في نشوى عندما سمعت صوت خطوات ثقيلة ترتقي السلم قاصدة سطح البناية فواربت النافذة لأرقب هذا الصاعد وأراه عن بعد .. كانت سيدة يبدو عليها كما قالوا أنها على وشك الستين من عمرها كانت تتوكأ عصاها وهي تتدثر بوشاح سميك رغم أن الطقس لم يكن باردا لهذا الحد وكانت تمسك بيدها الأخرى طبق به طعام .. تقدمت حتى وقفت أمام قن
الدجاج ثم قالت بصوت تتصارع أنفاسهوهي تفتح باب القن
(( صباح الخير يا حبايبي أنا عملت امبارح أكله حلوة قولت أدوقكم منها ..... لأ لأ لأ لأ إنت بالذات يا باشا ليك نصيب الأسد أنا عارفة إنك بتحب طبيخي وعلشان كده فضلة خيرك جبتلك رز وبسلة ورقاق أومال ايه دا إنت ديك البرابر يا حبيبي ...... الله الله إنتي زعلتي يا غالية والله انتي كمان غالية على قلبي أوي وانتي عارفة وعلشان كده جبتلك الأكل دا ليكي مش مصدقاني ؟ أخص عليكي دا حتى انا بأحكيلك على كل حاجة تعباني ومضايقاني ويشهد رأيك في كل حاجة طبعا ما إنتي حبيبتي واحنا مالناش غير بعض ... ما قولتلكيش مش البت بت أخويا امبارح .. ..... ....... .. . ... وصارت تتلو الأقاصيص والحكايات وأنا أشاهدها من مكمني متعجبا متسائلا هل هي تحدث الدجاج أم هناك من تحدثه لا يمكن أن يكون هذا الحديث للدجاج ... ، غلبني الفضول فخرجت في هدوء وسرت ناحيتها حتى أصبحت خلفها لكي أستوضح الأمر وما أن اقتربت منها إلا وقامت فزعة وهي تنفث في صدرها وتقول "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم أنس ولا جن "
أخبرتها أنني جاره الجديد وأنني استغربت أنها كيف تتحدث مع الدجاج فابتسمت في طيبة وقالت أومال ايه ياابني أحكيلهم واشكيلهم ماداموا هما الوحيدين اللي بيسمعولي ومش بيزهقوا بيسمعولي مهما طولت وبيفرحوا بيا لما بيشوفوني ويفضلوا يتنططوا حواليا أصلي بأوحشهم قوي .. ثم شرعت وهي تقول في صوت تشوبه المرارة بأوحشهم كويس أن فيه حد بأوحشه دي نعمة كبيرة ثم استدركت وهي تقول وبعدين عمرهم ما طلعوا سري أبدا لحد وبيرضوا بأي حاجة اديهالهم بذمتك فيه حد كده دا حتى أنا مرة حكيتلها عن ولاد أخويا اللي بقالهم يجي خمس سنين ما شفتهمش وفي الآخر لما جم عايزين ياخدوا مني الشقة قال ايه الواد اللي اتخرج من هندسة عايز يفتحها مكتب هندسي روحت حكيت لسي السيد أيوة سيد "وهي تشير للديك" بقيت أشيكله وهو يسمعني وكان بيعلي صوته ويزعق ما هو أصل الواحدة منا بتحتاج حد يكون سندها وخصوصا اللي زي حلاتي كده مالهاش حد "قالتها بنفس المرارة" ثم صاح الديك فانتبهت وقالت اسم الله عليك يا خويا ما انا بقوله انك سندي وعكازي ...
ظللت أنظر إليها في بلاهة وأنا أتساءل هل تلك السيدة مجنونة أم عاقلة أم ماذا ... فرغت من حديثها ثم قامت وسارت ناحية الدرج وهي عن إذنك يا ابني ورايا حاجات كتير هعملها ... ثم استدركت انت قولت انك الساكن الجديد ؟ طيب فين والدتك ووالدك ما تأخذنيش ياابني فأخبرتها أنهم في بلد أخرى وأنني هنا لاتمام دراستي الجامعية حيث أنني في عامي الأخير فقالت ربنا ينجحك ياابني بس تخلص دراستك وترجع على أمك على طول علشان تتسند عليك لو كل الدنيا سندتها مش هيكون زي ايدك .. ايدك هي عكازها وسندها وقوتها إسأل واحدة زيي اتحرمت من الولد ولما جوزها مات ولاد أخوها عايزين يدفنوها معاه .... ثم استدارت وذهبت من حيث أتت وانا أقف مكاني مذهولا هل هذه السيدة مجنونة تحدث الدجاج أم أنها عاقلة في عالم مجنون
بقلمي منى محمد
1
-2
