أعشق بشدة ساعات السفر حيث أنها تجعلني في حالة شرود تام فأكون انا لست أنا .. اكون مجرد شخص شارد في عالم آخر .. كل ما حولي يجري ماعدا أنا أجلس في صمت وسكون وكان الكون بأسره لا يعنيني .. كنت سابقا أعشق سفر القطار حيث أنفرد بالمقعد الفردي وأخرج هاتفي المحمول من حقيبتي وأضع سماعاته في أذني واستمع لأغاني الزمن الجميل لمحمد عبد الوهاب ؛ أم كلثوم ؛ فايزة احمد .. واساسي ان أستمع لأغنية "مسافر زاده الخيال" بالطبع هو كان يغنيها للنيل ولكنها تضعني في حالة نشوى واسترخاء غير طبيعي .. وخاصة منظر المياة والخضرة يمتزجان مع نغمات الموسيقى ليصنعا مزيجا مريحا محببا إلى النفس ... كان ذلك في ما مضى
أما الآن وقد اصبح ركوب القطار مغامرة غير محمودة العواقب وخاصة أن السكة الحديد تعمل يوم ومائة يوم لا تعمل .. فاضطررت لاستبداله بالسيارة .. والسيارة استبدلت الطريق بدورها فبدلا من الطريق الزراعي والخضرة هنا وهناك .. أصبح الطريق صحراويا حيث الرمال والصحراء والجبال يمنة ويسرة وعلى مرمى البصر كله قد اصطبغ باللون الأصفر الذي لاحياة فيه وأضفى على النفس شيء من الاكتئاب فحياتي لاينقصها صحراء يكفيها ما فيها .. حاولت ان اخرج هاتفي المحمول كعادتي ولكنني بعد أن مددت يدي في الحقيبة لم اجد بداخلي الرغبة في ذلك وكأن نفسي قد اصطبغت هي الأخرى باللون الأصفر
استمر الحال هكذا وانا اجلس ساكنة مكاني عاقدة يدي أمام صدري وانظر من نافذة السيارة أشاهد الجبال .. شيئا فشيئا بدأت أتآلف معها وهذه هي طبيعة النفس البشرية إذا فرض عليها شيء ورفضته بشدة مع الوقت تعتاده ثم تتآلف معه حتى أننا نتآلف مع الألم والجراح ونعتادها وهذا من رحمة ربنا بعباده ..
المهم أنه رويدا رويدا جذبني المنظر وحيث كان الطقس يومها ممطر في مناطق ومناطق أخرى ترى الشمس ساطعة ثم تخبو .. ملقية بظلالها على قمم الجبال .. فتارة تأخذ اللون الأصفر الفاقع وتارة عندما تاتي فوقها سحابة تخبو معه حدة اللون الأصفر للتحول شيئا فشيئا إلى اللون الرمادي تختلف درجته بمدى قتامة السحابة .. ويستمر هكذا في تناغم وايقاع رباني بديع .. وشعرت وكأن الجبال هامات تتراقص على أنغام الطبيعة والجمال الكوني ... ولكن مع كل ذلك احساس البرودة يغلب على تفاصيل اللوحة بأسرها وبينما انا أشاهد المنظر من خلال النافذة وقد استسلمت لبرودة المنظر واعتدتها .. وإذا فحأة ألمح لقطة من اروع ما يكون بل ومضة .. ومضة دفئ وسط كل تلك البرودة لتنتزعني انتزاعا من حالة الاستسلام .. تلك الومضة عبارة حمامتان يقفان وسط الصخور وتميل كل واحدة براسها على الأخرى في مشهد غرامي نادر .. كدت أصرخ في السائق ليوقف السيارة ولكني تمالكت نفسي في اللحظة الأخيرة لأنه كان سيراني مجنونة ... وأساسا "علىى ما يفهمني ويقف ويرجع بالعربية هتكون الحمامتين روحوا وناموا:)" ..
ولكنها على العموم ومضة أحيت في النفس خمولها واستسلامها للصفرة ولليأس .. لم أراهما إلا للحظات ولكني لا أنساهما .. دفئ المشهد ووجود وسط كل هذا الجمود جعلني اتأكد ان دائما هناك امل