أمنية وشوق
في ضوء خافت يتوسط ظلمة مكان فسيح هادئ أكبر من عدة غرف متلاصقة يخلو من أنفاس البشر، وقف حسام هذا الشاب النحيل فارع الطول ذو الشعر الأسود الكثيف وذو العينين البنيتين اللامعتين، والبشرة البيضاء، تتسارع نبضاته وترتعد أطرافه وسط هذا السكون المهيب، ينتظر لجنة التحكيم التي سيعقد أمامها مشهد نجاحه الساحق أو فشله المرير، عقله يذهب بعيدا عن الجميع، يراود تلابيب روحه عما سيحدث بعد تلك الدقائق التي تمر وكأنها دهور سحيقة، عيناه تتلفتان يمنة ويسرة ولا تأبهان لتلك الصفوف الحمراء المتراصة أمامه بانتظام جميل وكأن لها هيبة خاصة تُبنى بينه وبينها وبداية لذكريات بداياته، وطريق المجد الذي يخطو عليه أولى خطواته، وعلى جانبيه شقي تلك الستارة الكبيرة المليئة بالشغف والحماس لمن يقف خلفها والتي نبغ أمامها من يستحق لقب فنان فينال من التصفيق المدوي ما تطرب له روحه وتشغف بها نفسه، فيزداد فخرا وحماسة لمواصلة طريقه الطويل، طريق المجد والحياة، حالة خاصة من السكون المختلط بأنفاس هذا الشاب الوسيم الذي يطمح أن يكون يوما فنانا مسرحيا مشهورا، يتلعثم نبضه قبل لسانه في ترديد كلمات هذا المشهد بعد أن استل سيف شجاعته ليعيد ترديد المشهد بكل حذافيره فلا ينقص شيئا من الكلمات ولا يزيد، مع ازدياد وتيرة الإحساس لأحداث المشهد، ويرتب بذهنه كيف ستكون تعبيرات وجهه وكيف ستتباين وتتردد ما بين الحزن والغضب!، واستحضار تلك الأرواح داخل نفسه خلال أداء هذا المشهد القصير وبعد انتهاء تلك الدقائق المعدودة سيكون الحال إما النجاح المبهر أو الفشل المميت، أو ربما هو الدخول من باب العظماء أو الخروج من باب الفاشلين، يرجع بذكرياته للوراء ويسترجع جميع التفاصيل التي تدرب عليها كثيرا في سطوح منزله، الذي اعتبره مسرح أيامه حين كان يحضر إخوته أمامه وهم يتسامرون ويتخيلون أنفسهم في مصاحبة هذا الموكب العظيم، فهذا هو المسرح وهم جمهوره العظماء وأمامهم يقف حسام ليرسم موهبته ببراعة فنان، ترى كيف سيستطيع في تلك الدقائق القليلة أن يقنع لجنة التحكيم بمهاراته الفنية التمثيلية؟، وكيف له ذلك وهي المرة الأولى التي يمارس فيها التمثيل عمليا بعيدا عن معهده ودراسته فيعبر بعدها لباب المجد والحياة التي يتمناها دوما، كيف سيجاهد روحه لتنقسم في مشاعرها فيتجسد ذلك في تقاسيم وجهه التي تتأرجح ما بين ملمح حزن وضحك في آن واحد، أو ربما مشهد يستدرج فيه دموع الفرح ممتزجة بدموع الألم، كيف سيصارع الموت وكيف سيقتل أنفاس الطغيان، كيف ستختلج روحه ويتردد صوته مرتفعا ومنخفضا كآلة موسيقية يعزفها فنان ماهر فترتفع بالمقامات ذهابا وإيابا ليبهر هذا الجمهور ذو الذائقة اللامعة، أسئلة تراوغ حسام وتدور بمخيلته، ورغم تدريبه المتواصل في الأيام السابقة إلا أن حالة الخوف تتملكه الآن، ربما هو خوف الطموح والإصرار على النجاح ونقش أولى خطواته للوصول لطريق أحلامه القائم بنبضه وروحه منذ نعومة الأظفار حتى ريعان الشباب، وبينما هو كائن هكذا في ملكوت روحه يسمع وقع أقدام لجنة التحكيم تقترب شيئا فشيئا، أخذوا يتراصون أمامه أسفل خشبة المسرح العظيمة، ترانيم أنفاسه حينها تحاول أن تهدأ ببطء كي لا يلاحظها أحد، عيناه وروحه وكل ذرة به يتشبثون بحلمه وبأمله وبطوق نجاة يدنيه من المجد، حتى انطلق صوت أحد الحكام يسأله عن اسمه فيجيب: حسام محمد عبد الله. فيُشار إليه بالبدء ...
" ملامح يملأها الخوف مضطربة حائرة وعينان زائغتان ويد ترتعش من مجهول قادم، ويد الغضب يعصف بأوج الهدوء يتكلم بالهاتف: يا دكتور أخبرني بالله عليك هل أمي بخير، ماذا؟، لا لا، لا تقل هذا أمي لن تفارقنا سنعمل لها العملية، الوقت لن يهزمنا، سأوفر الـ...... ،صراخ كثير، يقع الهاتف من يده يجرى نحو سرير قابع في طرف المسرح فينتقل معه ضوء المسرح ويرمي نفسه على خيال مسجى على سرير قاتم"
: أمي لا ، لا تختبريني بهذا التمثيل، أفيقي يا أمي، أم أمممم أمي انتظري.! (دموع حارقة و لعثمة وتردد) : هل رحلتِ؟! انتظري سأجهز المال لن يعيقني شيء، أمي الدكتور طمأننا، لا يا أمي لن تتركينا أنا وأخواتي نحتاجك جدا، من سيوقظنا من نومنا، من سيجهز فطورنا ونحن نسمع ضحكاتك الجميلة تتردد في أركان البيت، من سيجهز ساندويتشات المدرسة، من سيودعنا ومن سيستقبلنا عند عودتنا، من سيرتفع صراخها علينا حين نفتعل المشاكل معك؟؟ أمي رحماك يا الله (سقوط على ركبتيه وبكاء مرير)
:أمييييييي عودي التقطي أنفاسك مجددا، أعدك أني سأطيعك ولن أرفض لك أمرا، لا تغضبي، أعرف أن قلبك يدعو لي، لا تفلتي يدي أستحلفك بالله، أحبك يا أمي فلا تبتعدي عني، (صراخ وفقدان نهايته تكور جسده بالأرض دون نهاية للأحزان)، انتهى المشهد مع تصفيق حار من لجنة التحكيم التي اندهشت من صدق مشهد حسام حتى صدقوا أن أمه قد فاضت روحها إلى الله حقا وأن هذا ليس جزء من مشهد تمثيلي.
كانت دقات قلب حسام تكاد يسمعها جميع الحاضرين من فرط تأثره ونجاحه المبهر حتى انثنى للأمام قليلا تحية للجنة التحكيم والحاضرين، ثم دخل خلف الكواليس ومازال زملاؤه وجميع الحاضرين مستمرين في التصفيق، حمد الله كثيرا على توفيقه وسجد سجدة شكر طويلة ودموعه ما زالت حاضرة قيد هذا النجاح المبهر، ولكنه رغم فرحته لم ينس أن يتصل بأبيه وإخوته ليبشرهم بنجاحه، ولولا أنه اختبار مسابقة كبرى ويمنع فيه اصطحاب الأهل لكان قد اصطحبهم معه ليشاركوه لحظات عمره الجميلة، فهو لا يشعر بالانتماء سوى لعائلته الصغيرة التي يحبها من كل روحه وقلبه، طمأن أبيه الذي كان قلقا على حلم ابنه الذي شاركه فيه منذ صغره، والذي ذرف دموع الفرحة لنجاح فلذة كبدة وشعر بأنه بدأ أولى سنوات حلمه وصعود سلم المجد والشهرة اللذان يحلم بهما دائما، ونظر نظرة طويلة إلى صورة زوجته الحبيبة المعلقة على الحائط وأتى على محادثتها فقال لها:
أترين يا حبيبة الروح ابننا حسام! نجح وكُللت جهوده وتعبه بالنجاح وإن شاء الله سيكون نجما لامعا في سماء الفن، ليتك كنت معنا وفرحتِ به وبأبنائك جميعا، رحمك الله يا منية الروح والفؤاد.
أما عن إخوته فقد هللوا كثيرا ورقصوا فيما بينهم وأقاموا مراسم الفرح في بيتهم الصغير وانتظروا مجيء حسام من المسرح حتى تكمل فرحتهم ويتقاسموا السعادة فيما بينهم، وما إن دخل حسام في أول شارع بيته حتى قابله والده و إخوته بالفرحة وكذلك أهل الشارع فرحين مهللين وسط تلك الزفة الكبيرة التي أعدوها على أنغام المزمار، فكان الجميع يرقصون ويفرحون وكأنهم جميعا من أهل حسام، فهي عادة أصيلة في أهل الشارع يتشاركون مع بعضهم البعض المناسبات ويتمنون لبعضهم الخير دائما، سُرَّ حسام كثيرا بفرحة أسرته الصغيرة وفرحة أهل الحي الكبيرة وشعر بامتنان شديد وفرحة جعلت قلبه يثب منه كطفل صغير اشترى له والده لعبته المفضلة، دخل حسام غرفته ورمى بنفسه على سريره بفرحة غامرة وظل يرسم بخياله على سقف غرفته وقفتَه على المسرح أمام جمهوره الذي لم يكف عن التصفيق له وهو ينحني لهم يمينا ويسارا مبتسما ليحييهم على تصفيقهم الحار وإعجابهم بموهبته العظيمة، ظل هكذا في أمنيات روحه يبتسم حينا ويبكي فرحا حينا آخر حتى غلبه النعاس وتشارك كذلك في حلمه فوزه ونجاحه وفرحته الكبيرة، وفي صباح اليوم التالي استيقظ حسام نشطا وتوضأ وصلى ثم توجه إلى المطبخ ليعد الفطور ويتشاركه مع أبيه وإخوته، وبعد انتهائه وقبل ذهابه لعمله في المكتبة رن جرس هاتفه النقال وإذا بهم في المسرح يطلبون منه أن يأتيهم فورا لأمر هام، فرح جدا وقام بتقبيل يد والده الذي بادره بالكثير من الدعاء له وتمنى له التوفيق الدائم وتحقيق النجاح الذي يتمناه، اتصل حسام بصاحب المكتبة التي يعمل بها يستأذنه في التأخر لعدة ساعات فحصل على الموافقة، ودعا الله في سره أن يكتب له الخير في خطواته الأولى في طريق المجد والشهرة، دلف حسام من باب المسرح وكان هناك طاقم عمل المسرح على رأسهم المخرج ومساعديه، كان حسام يخطو خطواته مقتربا منهم وكأنه قد تعلم المشي حديثا، هلل الجميع حين قابلوه وأطلقوا عليه البطل الهمام، حتى جلس أمام المخرج الذي أشاد به ورحب به باهتمام أمام الجميع ثم دعاه أن يدخل معه مكتبه ليتحدثوا على انفراد، فأومأ حسام بالموافقة وسار خلفه وخافقه يكاد يخرج من صدره حتى هدأ قليلا فعرض عليه المخرج دون الدخول في مقدمات كثيرة أن يعمل معهم، تهلل وجه حسام ووافق حتى فاجأه المخرج بمفاجأة سارة لم يكن يتوقعها حتى فغر فاهه ولم ينطق بكلمة واحدة، إلى أن تدارك ما سمعه والذي جعله مشدوها وقال للمخرج ماذا تقول؟!