جئت للدنيا وأقبلت عليها متفائلة بكرم الله على قلبي، حتى وإن واجهتني بعض
الصعاب، أتأنى كثيرا في الحكم عليها، ما زال حلمي الأخير يكتنف روحي، وما زالت نواقيس الخطر تدق باب دنياي، وما زلت أكمل مسيرتي وأستعد للقاء واقع جديد يملؤني حياة ويعيدني لنفسي، قبل أي شيء أنا حسام محمد عبد الله ٣٥ سنة خريج معهد الفنون المسرحية، أنا أكبر إخوتي، لم يكن لي أمنية في هذه الحياة سوى أمنية واحدة وهي أن يتحقق حلمي بإكمال دراستي في معهد الفنون
المسرحية، وأن أجتهد بعد تخرجي قدر استطاعتي و أصبح أعظم فنان مسرحي، أطمع جدا خلال تلك الخطوات أن أنال شهرة كبيرة يعقبها مال كثير أحقق به الكثير من أحلام أبي وإخوتي الذين تحملوا فظاعة العيش وحمدوا الله ولم يتذمروا أبدا، وما زال الحلم يراودني رغم مغايرة الواقع الذي جعلني أعمل
عملا مؤقتا في مكتبة أتحمل به نفقاتي الخاصة ولا أحمل أبي عبئا فوق أعبائه المتراكمة، أفعل ذلك برضى حتى يحين موعد القدر المكتوب لي مع المسرح ،ورغم تأخر حلمي كثيرا إلا أنني لم أيأس قط وقد بدأت فعلا خطواتي الصغيرة السائرة كالسلحفاة في طريق مجهول، عملت في أدوار صغيرة بالمسرح والتي
ربما بداية ستدفعني لصعود سلم النجومية درجة درجة بإذن ربي، أعيش مع أبيوإخوتي الثلاثة عماد وهناء ومها في حي قديم من أحياء مدينة القاهرة العتيقة وهو حي السيدة زينب، أبي موظف بسيط يعمل في هيئة البريد، راتبه يكاد يكفينا لمنتصف الشهر، وبقية الشهر يمر بصعوبة بالغة ما بين دين وإرهاق في إدارة هذا البيت الخالي من حنان ربة البيت التي تركتنا مبكرا، حيث حدثت الطامة الكبرى بفراقها وعدم قدرتنا على تجاوز تلك المصيبة من جهة و المعاناة لنا
جميعا أن ندير بيت كهذا على حطام فقد أمي الحبيبة من جهة أخرى، بيتنا بسيط جدا كحالنا ولكن رحمها الله والدتي الحبيبة ملأته قبل أن تغادرنا بالمحبة التي
زرعتها بأرواحنا قبل بيتنا، أنا وإخوتي كقبضة واحدة لا ننفك عن بعضنا أبدا ،نحلم معا ونعيش قلبا واحدا في كنف أبي الحبيب الذي انحنى ظهره في مكابدة
الحياة والقيام على تربيتنا بعد رحيل الغالية أم حسام كما كان يلقبها، ما غرسته
أمي من جميل المشاعر والحب جعلني إنسانا قبل أي شيء مع اختلاط إنسانيتي ببعض المادة، وجعلني أتمنى بحلمي الأخير أمنية خاصة أن تكون زوجتي
وصغيرتي الحبيبة مثل أمي فيكون بيتنا الصغير مملوءً بالحب والسعادة والدفء مثلما كنت أرى أبي وأمي، فكم كنت أشعر بسعادة تملأ أوردتي حين أرى
والداي يجلسان معا جلسة العصاري والدفء يكتنفهما والضحكات الدافئة تملأ قلبيهما قبل وجهيهما، ألفة غريبة نادرة، سعادة تفوح وتتناثر يمينا ويسارا في أركان هذا البيت البسيط فتراه كأنه قطعة من الجنة مملوء بالياسمين والعنبر
محاطا بسياج من اللون الأخضر، وما زال البحث مستمرا عن صغيرتي الحبيبة التي تدلف قلبي دون استئذان فتطوقني بذراعي الحب وتتعلق بنبضي وأروقة روحي ولا تغادرني أبدا، وهذا هو الحبيب الكبير أبي، جنتي و شبيه روحي،
سندي وملاذي حين تضيق بي الأرض برحابتها، في كنفه الحكمة وفي جواره هدوء الأنفاس وفي مودته صديق وفيٍّّ، حين أقترب منه تسري بي أطياف ود وهدوء وجميل مشاعر، نصائحه دروس تدُرس بأكبر جامعات الحياة، رجل
بسيط قلبه أدفأ من قلوب أهل الأرض جميعهم، قدوتي ومعلمي وبصيرة دروبي، أما عن أبنائي الثلاثة )إخوتي( قطعة النبض فإني أتنفس الحياة بدفئهم، ليسوا
إخوتي فقط بل رائحة النسيم العليل ونشوة الأنفاس، أفرح جدا حين ينادوني
بدلال بابا حسام لأنني أكون معهم مثل الأب بحنانه وقت الدلال وقسوته وقت الجد، لا أطيق عليهم ذرة سوء فهم أمان روحي ودفء فؤادي وترياقي، قد
تروني شخصا عاديا لكني أكاد أجزم أني لست كذلك فبداخلي طاقة نبض جبارة، وقوة وعناد أكثر حسما، ورقّة مفرطة وهشاشة روح، أنا الشيء ونقيضه، أنا المتلازمات الأربع، لم يكسرني أي شيء يوما سوى فقد أمي، لذا كان مشهد الاختبار المسرحي والذي لم أختاره بإرادتي هو مشهدي الشخصي، هو تحٍّدٍّ
خاص بروحي فقد استشعرته جدا و لم أكن أتقمصه أبدا، لقد حكته بنسيج قلبي ،وتنفست الألم فيه حين تجسد أمامي مشهد فقدان الحبيبة البتول أمي طهر قلبي ، لقد نسيت حينها أني بمشهد تمثيلي أمام لجنة تحكيم وخشبة لمسرح مهيبة وأني
أمام تحدي الحياة لي، فقط تذكرت أمي وانتحبت لفقدها، فكم مثلها أمٌّ لن تتكرر في حياة الأبناء، أم حسام الغالية رحمات ورضوان وجنة عرضها السماوات والأرض ورب راض غير غضبان عليك حبيبة الروح أمي الحبيبة.





































