عزيزتي إيميلدا
قال أحد الفلاسفة القُدماء "هذا العالم كله غير حقيقي, وَهْمُ خَلَقَهُ عقلي لكي لا أشعُر بالملل" هل كان يقصد عالمنا هذا أو يقصد عالما آخر؟ حقيقةً لا أعلَم!
راقَ لي اعتقاده, جميل أن يصنع الإنسان عالمه الخاص, أن يستخرج مِن رماد الذاكرة كُل ذكرى مُبهجة ولحظة سعيدة, أن يَكتفي باللُطفاء ويتجاهل المُتعصّبين والحادّين.
ماذا لو كانت الحياة كلها حلم؟ شيء غير حقيقي, شيءٌ آخر غير الذي نراه, رُبّما أنا ضفدع ولست أميرا مسحور! أو رُبّما أكون شخصية في رواية, بطل قصة ضلّ طريقه وخرج من الورق, أو طائر تحوّل إلى إنسان بدون قَصد! ورُبّما أنتِ زهرة كريستالية, زهرة مِن الماس والألوان, نبتَت في مدينة باهتة, بلا شمس ولا ماء, عِطرها ينتشر في الأجواء, ظلّها يُلامس السماء, ظِلّ لا يُخفيه الظلام أو تهدمه قذائف الأباتشي, زهرة في أرض قاحلة.
اليوم سأحاول صُنع عالم خاص بي, حياة قصيرة مِن الخيال, رحلة افتراضية بلا عوائق أو منطق, سأُعلّق فوق نافذتي ساعة كبيرة بلا عقارب, سأقوم بتثبيت الشمس فوق المنزل, سأبدّل المصابيح بأقمار مُلوّنة, سأعود إلى الماضي لتصحيح الكثير مِن الأخطاء, أسامح مَن آذوني وأطلُب العفو ممن آذَيتُهُم, كم أتمنّى أن أمحو الكثير مِن الحماقات...من حياتي ومِن ذاكرة الزمن, لو كان بيَدي الاختيار لاخترت ألا أكبَر, آه لو أستطيع الطيران, أقسم بألا ألمس الأرض أبدًا, لو قُدِّر لي أن تتحقّق أمنياتي لتمنّيت فقط أن تكون ذاكرتي كذاكرة السمك.
قال هيراقليط "الشُعراء يكذبون كثيرًا" مقولة صادقة, أزيد عليها " الروائيون يكذبون أكثر" لا يوجد انسان لا يكذب, وأنا يا إيميلدا أكذب كثيرًا, أكذب لكي أختَفي, أكذب لكي لا يكرهني أحد, أكذب لكي أنجو مِن عقلي, إن حياتي مليئة بالكذب, مليئة بالوهَم, مُغلّفة بالزَيف, حياة تكتَظّ بالفشل والسُقوط والأخطاء والخذلان, حياة سيئة.
ما هي الحقيقة يا إيميلدا؟ سؤال أزعجَني ذات صباح هادئ. "الحقيقة بداخلنا" إجابة نبتَت في رأسي فجأة, كأن شبحًا نطقها في أذني واختفى, حين كُنت أتابع شروق الشمس-كعادتي- جاء عصفور ووقف على غُصن الشجرة, قام بعزف مقطوعة صغيرة ورحَل, كأنه يُلقي السلام,ثم حلّق عاليًا حتى ابتلعه قرص الشمس, أدركت حينها أن الحقيقة ستظل غامضة, قررت عدم التفكير واكتفيت بالتدخين ومُشاهدة كل ما يحدث حولي من عبث وفوضى, ما فائدة التفكير؟ ما فائدة الكتابة؟ ما فائدة كل هذا الحكي وهذه الثرثرة!
عزيزتي إيميلدا, لا يُخرس ضجيج العقل إلا الحُب, لا يُخمد حرائقه إلا الشغَف, لذلك أرجوأن تبقي معي, أن تُطعميني شغفًا وأملًا, أن تُسقيني أفكارًا مُبهجة وقِصصًا ذات نهايات سعيدة, إنّكِ -وبِدون قَصد- تغرسين بداخلي بهجة, في حُضوركِ هدوء, صَمت إجباري يُغلّف سمائي أينما تواجدت, تُخرسين الأصوات المُزعجة بداخلي وتُبدّلينها إلى موسيقى هادئة, تجلسين في أعماقي, تِلك المنطقة المحظورة التي أخشاها, كوني معي فقط, لعلّي أستعيد ذاتي, لعلّ أفكاري الهاربة تَعود إلى أوراقي الفارغة.