نسورنا البواسل فوق موقع بطاريات الهوك ، يقذفون الصواريخ محطمين ليس فقط بطاريات العدو وموقعه ، وإنما يحطمون أيضاً غروره وصلفه وحلمه بالاستيلاء على سيناء دونما مقاومة أو قتال ، يحطمون رهانات الغرب الدائمة على إسرائيل وجيشها ، يحطمون اليأس ، ويواصلون إعلان التحدى .. هنا سماء مصر أيها العدو ،فيها ومنها يكون مصرعك .
دقائق معدودة نجح خلالها الملازم طلال وتشكيله فى إسكات بطاريات العدو ، استدار عائداً إلى القاعدة ، وفى تلك الأثناء بدأ العدو المذعور يوجه نيرانه إلى طائراتنا ، أصيبت طائرة الملازم طلال ، واشتعلت بها النيران فوق مواقع العدو ، ولم يكن البطل فى حاجة لأن يفكر فيم يفعله ، طالما اتخذ قراره منذ أن تخرج طيار مقاتل ، وتعاهد على النصر أو الشهادة ، ولطالما قرر مسبقاً أن يصطدم بموقع العدو حال إصابة طائرته فوق موقعهم ، كان القرار واضح ومسبق ، والآن حان وقت التنفيذ .
ولم يدر بخلده أن حياةً جديدة تنتظره ، بجوار حبيبته ، بين أصدقائه ، مع أسرته ، بل إنه هنا فوق الأجواء من أجلهم ، إنه يعشق الوطن والوطن هم ، يذوب الجميع فى معناه وتكوينه ويتفانوا من أجله، إنها اللحظة التى رسمها ، وباح بها ، كما أن القرار نفسه لن يتبدل ، فى سرعه مذهلة ، أبلغ باللاسلكى أن طائرته اشتعلت وأنه الآن فى طريقه إلى قاعدة العدو .. فى طريقه إلى الجنة ، وأصطدم بطائرته فى موقع صواريخ هوك ، ليشتعل الموقع ويخضع للنيران فتلتهمه ، ويخلد البطل فى سجل العظماء الذين قدموا أرواحهم فداء الوطن .
فى اليوم التالى وقع خبر الاستشهاد كما الصاعقة على أسرته وأصدقائه ، أنهارت الأم ألماً وحزناً وبكاء ، فطلال ولدها الثالث ، كانت على وشك أن تحتفل بخطوبته ، لكنه الآن لم يعد موجود بينهم ، أما والده الأستاذ محمد سعد الله موجه التربية الفنية فقد تلقى الخبر بشىء من التماسك ، كذلك أخوته أسامة ، محمد عبد الهادى ، صفوان وتيسير ، جميعهم تألموا ، لكنهم تماسكوا ،، فقد سار طلال على الدرب الذى رسمه لنفسه منذ أن كانت أحلامه الإقامة فى منزل مرتفع ، و عشقه تسلق الارتفاعات ، وكذلك رغبته الالتحاق بالكلية الجوية ليصبح طياراً يحمى سماء الوطن ، ويشارك فى ردع العدو ، ومحو آثار الهزيمة ..
وفى 28 أبريل ، شيع الحضور جنازته ، وشهيدين آخرين من نسورنا ، إنهما الشهيدان فاروق جاد الرب ومحمد عبد الجواد ، سارت جموع المصريين فى وداعهم ، ساروا وقلوبهم يعتصرها الألم ، وفى الوقت ذاته يستحضرون روح البطولة ، ويتفاخرون بصنيع الأبطال ، ويرسلون للعدو رسالة ، إننا صامدون حتى آخر مصرى ..
سارت جموع الأهل والأصدقاء إلى مثواه ، فى المكان الذى اختاره بالقرب من صديقه الشهيد أحمد جابر ، فى مقابر شهداء القوات الجوية .
وفى مشهد تهتز له القلوب ، وقف والد الشهيد الملازم طلال سعد الله ، وقف أمام قبر ابنه الشهيد ، يصيح قائلاً :
ابنى لم يمت ، ابنى حى ويسمعنى
ابنى لم يمت ، ابنى حى ويسمعنى
تجلت صورته أمام أصدقائه ورن صوته فى أذانهم وهو يكرر أنه سيقتحم الموقع بطائرته ، كانوا يظنون أنه يكرر هذا الافتراض من فرط حماسته ، لكنهم فوجئوا به وقد نفذه .
بينما جثت خطيبته على ركبتيها تحتضن القبر ، وتبكى بشدة ، ألم يعدها بلقاء جديد ؟ ألم تكن الحياة السعيدة تنتظرهما ؟ هل تناسى أحلامهما وطموحاتهما المشتركة ؟ كانت من الحزن والذهول بدرجة لم تعد تصدق أن طلال الذى كانت روحه تشع بهجة ومرح ، سكن ، واستشهد ، تاركاً زملائه على الدرب ، حتى يحققوا النصر ، حاول الجمع تهدئتها ، وحاول الحراس إبعادها ، لكن محاولاتهم لم تنجح ، أمرهم أحد الضباط بتركها حتى تهدأ ، وتسكن الأوجاع ..
وكيف للأوجاع أن تسكن ، وزهرة شباب مصر يمضون واحداً تلو الآخر ، محاولين انتزاع النصر ورفع اسم الوطن عالياً ؟؟
تمضى الأيام ، والسنون ،إلا أن استشهاد طلال لم يمر كحدث عابر ، فقد ترسخت بطولته لدى الكثير من أبطالنا نسور مصر ،واختار بعضهم نهاية مماثلة ، وحينما حانت ساعة الصفر وانطلق نسور مصر فى سمائها متجهين إلى مواقع ومطارات العدو يصبون عليها حمم النيران ، انطلق معهم النقيب طيار صبحى الشيخ يحمى المقاتلات القاذفة ، الموكلة بتدمير مطار رأس نصرانى ، بدأ الأبطال يدكون المطار ، وبدأ العدو فى توجيه صواريخه ونيران مدفعيته ،أصيبت طائرة البطل ، وبدلاً من أن يقفز بالمظلة ، اتخذ قراره باقتحام دشمة للعدو ،تستعد فيها طائراته للإقلاع ، أبلغ فى اللاسلكى أن طائرته أصيبت ، ردد : الله أكبر .. تحيا مصر ،، واقتحم بطائرته دشمة العدو ..
وفى عدد مجلة الهلال التاريخى ، نُشرت صورة الشهيد طلال بين أبطال النصر ، ووضعت صورة الشهيد صبحى مدوناً الاسم تحتها ، صبحى الشيخ ، تلميذ سعد الله ، فقد مضى طلال لكنه كان قدوة لصبحى الشيخ ، ولغيره من النسور البواسل الذين لم يهابوا الموت فى 1973 ..
مضى وبقيت بطولته نبراساً على درب الأبطال والشهداء ..
مضى طلال ، لكنه بوطنيته وإخلاصه وبطولته حياً فى أذهان الكثيرين ، فها هو عادل الجارحى صديق الطفولة يكتب عنه فى مدونته بعد مضى أكثر من 30 عام على استشهاده ، وها هو قائده اللواء محمد عكاشة ، يروى للأجيال بطولة الشهيد ، وتنزح عبراته كلما تذكر طلال ذاك الشاب الصغير سناً ، الشهيد والبطل مقاماً .. وحينما زار أسرة الشهيد ، تجسدت أمامه ذكرياته مع طلال وأحمد ولفيف من الشهداء ، حاول مقاومة الدموع ، لكنها هزمته ، تماماً كما هزمها منذ عشرات السنين ، حينما كان الوطن فى أوج القتال والصمود .
********************
فى ذكرى النصر المجيد ، أسمى التحايا لروح الشهيد الملازم طيار / طلال سعد الله وشهداء مصر الأبرار