ولأن اللواء الأول المدرع مهامه حماية الضفة الغربية ، لم يكن العبور شرقاً من مهامه ..
الانتصارات تتوالى ، والمعارك تسير على أفضل وجه ، بذل فيها المصريون جنداً وضباطاً أرواحهم فداء الوطن .
وكما جموع الشعب كانت أسرة العقيد السيد أبو شادى تتلقف أخبار المعركة وتتلهف لسماع أخبارها ، تماماً كما تتلهف الاطمئنان عليه ، كان القلق يسرى بين أسرته ، تنتظر أسرته وترقب عودته ، يمنى ابنه الصغير أيمن ذوى 9 سنوات نفسه بأن والده سيرسل السيارة قريباً كى ينتقل بها إلى الجبهة ، يحتضنه والده ويجلسه فوق السيارة ، يقضى معه ساعات قليلة ، يغمره بعطف وحنان الأبوة ، أما إيمان لا يفارقها القلق وهى تتذكر قولها لأبيها : بابا احنا خايفين عليك ، ورده الحاسم :
حبيبتى أنا رايح أرجع أرضنا علشان تعيشوا رافعين رأسكم وتعيشوا فى أمان ..
كان الفرح بالعبور يسير جنباً إلى جنب مع القلق .. مع الأيام ثبت أن مخاوف أسرته لم تكن فى غير محلها .
فما إن حلّ يوم 14 أكتوبر حتى اتخذت القيادة المصرية قرارها بتطوير الهجوم ، لتخفيف وطأة الحرب على الجبهة السورية والجيش السورى ، وهنا تلقت الفرقة 21 المدرعة ، الأمر بالهجوم والاتجاه شرقاً .
وأثناء الاستعداد للعبور رصدت طائرة الاستطلاع الأمريكية تحركات الفرقة 21 المدرعة ،وخاصة تحرك اللواء الأول المدرع تجاه القناة وكذا تحرك اللواء 18 ميكانيكى بالتزامن معه ، وأصبح العدو على علم بتحرك الفرقة 21 ، ولاحت الفرصة له كى يحصد دبابات اللواء .
قاد العقيد أبو شادى اللواء الأول المدرع ، فى عبوره صباح 14 أكتوبر ،
ورغم أن قواتنا الجوية بدأت فى قصف نقاط العدو 118 و 114 وهى النقاط المواجهة لمنطقة عبور اللواء الأول ، تبع ذلك قصف المدفعية ، وقصف دبابات اللواء الأول لمناطق العدو ، إلا أنه سرعان ما تحولت الدفة ، بعد أن بدأ اللواء الأول فى العبور ، وتقدم باتجاه العدو .
فبعد مضى ساعتين من قصف مدفعينا وقصف اللواء الأول ، جابهت دبابات اللواء الأول قصف مدفعى ومقاومة شديدة من العدو أدت إلى وقوع خسائر كبيرة فى دبابات اللواء الأول .
كان العقيد أبو شادى فى إحدى الدبابات يقود رجاله ، وقد فوجىء بشدة القصف المدفعى من قبل العدو ، لقد أصبحت دبابات اللواء بقرار التطوير صيداً للعدو .. لم تكن تلك مهمتهم التى تدرب عليها الرجال لسنوات طويلة ، ولكن الواجب المقدس وتنفيذ التعليمات أمر لا مفر منه ..
صاح فى اللاسلكى معبراً عن حزنه فليس هذا اقتحام اللواء الأول
زادت خسائر الدبابات ، وزاد معها عدد الشهداء ، والقائد فى ميدان المعركة ، إلى أن تلقفت إحدى دانات العدو دبابة القائد فأصابتها ، وأُصيب البطل بعدة شظايا ليسقط خارج الدبابة ، جريحاً على الأرض ، من قال أن الأبطال تسقط .. إنهم يسكنون ممجدين .
حمله الرجال فى سرعة ، استجمع قواه وهو يقول لهم :
قولوا للعقيد محمود ربنا معه ، ويخللى باله من رجالى
كانت تلك آخر كلماته لهم ..
وصلت الإشارة إلى القيادة المصرية باستشهاد العقيد أبو شادى ..
لكن الإشارة لم تكن بالدقة ، فقد تم إخلاء العقيد أبو شادى إلى مستشفى القصاصين بالإسماعيلية .
وما إن علم اللواء ماهر حليم ، أحد أبطال سلاح الإشارة وصديق العقيد أبو شادى بنبأ الاستشهاد حتى انتقل بنفسه للتأكد من صحة الإشارة .. وقعت عينيه على صديقه العقيد أبو شادى ، لكنه لا يزال حياً ، إنه مصاب إصابة خطيرة .. ومحاولاً إنقاذه قام بنقله إلى مستشفى المعادى العسكرى ..
هناك كان العقيد السيد محمد أبو شادى فى طريقه إلى حيث شقيقه الأصغر فهمى ، كان فى طريقه إلى الشهادة ، لكنها إرادة الله أن يُنقل إلى مستشفى المعادى كى تحظى أسرته وأحبابه بنظرة أخيرة إلى البطل ، ويحظى هو بنظرة إلى زوجته وطفليه مرفوعين الرأس ، رغم الحزن والألم ..
وفى يوم 21 أكتوبر أسلم العقيد أبو شادى الروح إلى بارئها ، شهيداً فى سبيل الله والوطن .
انهمرت الدموع والأحزان بين أسرته و أحبابه ، رنّ صوته فى أذان إيمان وأيمن وهو يقول : أنا رايح أرجع أرضنا علشان تعيشوا رافعين رأسكم وتعيشوا فى أمان .. أنا رايح أرجع أرضنا علشان تعيشوا رافعين رأسكم وتعيشوا فى أمان ..
غادر الشهيد منزله ، إلى منزلة ونُزل أعلى بكثير .. إنها الجنة أعدها الله للمقاتلين فى سبيله .
سكنت روح العقيد أبو شادى لكن أمجاده ورجال اللواء الأول المدرع لم تسكن ولم تخبو ، بل أصبحت مثار الفخر والاعتزاز ، فبعد أن وضعت الحرب أوزارها ، أقيم النصب التذكارى لشهداء المدرعات ، فى موقع اللواء الأول المدرع ، فى طريق الإسماعيلية ، وقد أزدان النصب التذكارى ولوحته التذكارية بأسماء الخالدين ، يتقدمهم اسم الشهيد العميد أركان حرب السيد محمد توفيق أبو شادى ، ووضعت الدبابة التى خاض بها القتال فوق النصب ..
وأمام النصب التذكارى لشهداء المدرعات ، أقيم الاحتفال تكريماً لشهداء وأبطال الفرقة ومنح اسم الشهيد العميد أركان حرب السيد محمد توفيق أبو شادى وسام النجمة العسكرية ، دوى المكان بالتصفيق الحاد فور ذكر اسم الشهيد ، تقدم ولده أيمن ذو السنوات العشرة ، لاستلام النجمة وبراءتها ، احتضنه المشير الجمسى ، وهمس إليه : أهلاً يا بطل .
نظرت إيمان حولها ، إنها ووالدتها وأخيها وجموع الحاضرين ، يقفون على أرض مصر فى أمان ، دون تهديد من العدو الذى انحصر فى شمال سيناء ومناطق قليلة ، حتماً سيغادر العدو أرض سيناء كلها يوماً ما ..
شعرت الأم بروح الشهيد تطوف المكان ، نزحت منها بعض الدموع وهى تطالع وجه أيمن يتسلم وسام النجمة العسكرية ، تراءى إليها وجه الشهيد كما عهدته مبتسماً فرحاً بالنصر والشهادة معاً ..
همست إيمان باكيةً : لقد عادت الأرض أبى ورفعنا الرؤوس ..
****************************
رحم الله الشهيد العميد أركان حرب / السيد محمد توفيق أبو شادى ، وشهداء مصر الأبرار وأسكنهم الفردوس