ترتعد فرائصه رغم حرارة الجو، جلس على طرف السرير متكئًا على عصاه، أسند ذقنه على ظهر كفيه القابضتين على رأس العصا، ثبت عينيه على بقعة في الأرض محاولا فك طلاسم تلك الرسمة المتداخلة والمنقوشة في البساط العتيق، كم مرة من قبل حاول ولم يفلح. لا يمتلك ذلك الذوق الفني الراقي الذي تمتلكه هي، كم مرة عاب عليها بعد أن انفصلت عنه ماديًا تلك الأموال التي تنفقها في أشياء لا تجدي نفعا..هذا البساط الذي أنفقت فيه نصف راتب شهر، وتلك اللوحة المثبتة فوق رأسها، نقل بصره إلى الأعلى حيث تستقر اللوحة، انتبه للحظة، خيل إليه أن رباطها قد اهترأ،
وأنها ستسقط الآن، انتفض واقفًا كانتفاضة شاب في مقتبل العمر، ووقف بحرص على حافة السرير بقدمين عاريتين، وأنزل اللوحة بحذر
_رباطها قد اهترأ
قالها بصوت خفيض وهو يعالج الخيط الذي تآكل، وضعها على وجهها فوق الكومودينو الملاصق للسرير ثم جلس
_ كادت تسقط فوق رأسك
قالها بابتسامة حزينة، نظر ملياً إليها وهي راقدة مغمضة العينين، وابتسامة هادئة ارتسمت على ثغرها الذي فقد لونه الوردي وأصبح شاحبا، اختفت تلك التجاعيد التي غزت وجهها عنوة في السنوات الأخيرة، فاستدار وجهها كما الأطفال، وجنتاها الملساوان أعادتاه لأول مرة التقاها فيها.. تقف مع رفيقاتها على محطة القطار..تابعها منذ اليوم الأول الذي عينت فيه في نفس المدرسة..تفرّدت عن الجميع بهدوئها الناعم، لم يتردد طويلاً في اتخاذ القرار.. في العام التالي كانا يقفان معًا على ذات المحطة، يداهما المتشابكتان تعلنان عن مشاعر متأججة.. في العام الذي يليه وقف عابث الوجه يدخن سيجارة، وعلى بعد مترين تقف حاملة طفلهما الأول، نظرتها حزينة.. سلمته كل شيء ولم تبق لنفسها إلا الشكوى والضجر ثم الرضوخ والاستسلام..تعود إلى بيت أبيها بثلاثة أطفال
_ أريد الطلاق!
تنهرها أمها بشدة
_ أتريدين فضيحتنا؟
تبرر باستعطاف
_ لا ينفق علينا، استولى على راتبي وحرمني من كل شيء
تقول أمها مؤنبة
_ بنات الأصول لا يتكلمن عن المال
تعود معبأةً بخيبة أمل، لم تخبر أحدًا عن علاقاته النسائية المتعددة، وعن دناءته وهو يتلصص على النساء، تبحث في المرآة عن عيب فيها..
تنهّد بألم
_كنت مخطئا
داهمته قشعريرة، دعك عضديه بكفيه وهو يتلفت حوله، قال بنبرةٍ مرتعشة
_ الجو بارد، يبدو أن الاولاد تركوا المكيف متقدا
شد عليها الغطاء وأخذ يدثرها جيدا، خصلات بيضاء تطل من تحت الغطاء، لمست أطراف أنامله جبهتها الباردة، تصلبت يداه للحظات، مرر راحته المرتعشة على خدها، أرعبته افتقاده للحياة فنزع يده سريعا، طأطأ رأسه وشرد، ذهنه..دمعتان سالتا ببطء على وجنتيه حتى سقطتا على سرواله، قال بصوت باك
_سامحيني
لم ينتظر منها جوابا، أخرج منديلا وجفف بقايا الدموع، استعاد صوته نبرته الهادئة، قال معاتبا
_تصوري.. أولادك الحمقى أرادوا منعي من الجلوس معك، يقولون أنك لم تعودي زوجتي، ولا يحل لي أن اختلي بك، أرأيت أخرة تدليلك لهم؟ وعنادك معي، من قال أنك لم تعودي زوجتي، أتظنين أنك طُلّقتي بحكم المحكمة؟
أنا لم أنطق بكلمة الطلاق، ولو حكمت لك كل محاكم الأرض بالطلاق لن أطلّقك، أبعد كل هذا العمر! ... تطلبين الطلاق! تخلعينني بحكم محكمة!
تبا لهؤلاء الحمقى الذي أطاعوك في جنونك هذا، ولكنني صبرت عليك، وسأصبر .. وأصبر .. وأصبر، ومن يصبر عليك غيري أيتها الحمقاء؟
أنا زوجك، أربعون عامًا تحملين اسمي، أعرف انني أغضبتك كثيرًا، ولكنك .. تحملتني، لماذا الآن ؟
لم أحتمل طول هجرك، وأنا رجل ضعيف، .. أعلم انني لم اكن لك رجلا كما ينبغي، ولكن ...أنت لم تكوني لي انثى كما أريد! .. لا تنكري ذلك، أعلم ان كبرياءك يمنعك من إبداء الكثير مما تشعرين به، وهذا ما باعد بيننا.. غطرستك وضعفي..!
قلوب أولادي قست علي كما رغبتِ... ولكن لا ألومهم، قالوا أنها وصيتك
خفض رأسه بخجل حزين وظل صامتا، عاد إلى وضعيته الأولى مستندا على عصاه.