جلس منكفئا على عصاه أسفل نافذة الحجرة المغلقة والتي يرقد فيها جثمان الشيخ الكبير، لم يسمحوا له بالدخول لوداعه، الجميع واجمون، ليس حزنا ولكن أمراً آخر أصابهم بالدهشة، يستمع لكلمات هنا وهناك
"كان بيضحك وهما بيغسلوه"
سمع أحدهم يقول بصوت خافت لمن يجاوره، علت الدهشة وجه الآخر فقال مستنكرا
"بعد اللي عمله دا كله! "
ملأه الحماس مما سمعه فحاول الدخول عليه مرة أخرى لكنهم منعوه، يعلم أنه ليس من علية القوم كي يسمحوا له لكن الشيخ أبدا لم يشعره يوما بذلك، كان يقول له دائما
" أنت زي ابني يا علي!"
ينفرج فمه عن ابتسامة حيية تتسع رغما عنه فتبدو من خلفها أسنانه المتسخة والمتآكلة.
ليس من أهل القرية، جاء إليها منذ زمن مع أمه، لم يعلم لنفسه أبا إلا عندما طالبوه بتحديد موقفه من التجنيد، صرخت أمه في وجه القادم يطلبه
"عيل وحيد! هتاخدوه مني؟"
"هياخد إعفا يا ست بس لازم يستوفي أوراقه"
قال القادم لاستدعائه ليطمئنها ثم سحبه خلفه كبهيمة، عاد بعد شهرين يحمل بين يديه وثيقة إعفاء ووثيقة إثبات هوية، هرول نحو الغيط الشرقية ليخبر الشيخ أن له أبا، وجده جالسا كعادته ينتظر غليان الشاي في الإناء المتفحم من رماد الحطب المشتعل تحته، ناوله كوبا وارتشف من الآخر
" أبوك اسمه اسماعين "
قال الشيخ بعد أن ارتشف رشفة طويلة من الشاي الأسود، أجابه على الفور والفخر يملأه
" إيوا، أمي بتقول كان راجل طيب، الله يرحمه."
أطرق الشيخ مليا يرقب اتقاد الجمر ثم همهم بانكسار
" الله يرحمه."
بلغ الشيخ من العمر عتيا، لم يتزوج بعد تلك التي أجبره أبوه على تطليقها لأنها لا تناسبه، وهب نفسه للأرض التي ورثها وإخوته من أبيهم، كان أكبرهم فاستأثر بها لنفسه، أخبرهم أن أباه لا يملك سوى فدانٍ واحدٍ وما زاد عليها فهو ملكٌ له، شقي وحده فيها حتى اتسعت والآن يرثها وحده، لم يشأ أحد من إخوته الوقوف في وجهه، قالوا ليس له ولد وسوف يموت ونرثها، قاطعوه ولم يجد له مؤنسا إلا علي، داعبه ذات يوم
_ تعمل إيه ياد يا علي لو طلعت أنا ابوك.
رد بدون تفكير
_ هاقعد تحت رجليك العمر كله
_ عشان الأرض يا ولا.
_ لا ... عشان بحبك.
دمعت عينا الشيخ ونظر بعيدا.
انتبه علي على جلبة حوله، علم أنه حان وقت الرحيل، تقدم الجميع وحمل النعش، حملته معه أكتاف تشبه كتفيه العاريتين، تنهمر من عيونهم الدموع بينما تراجع الإخوة الأكابر. انفض العزاء وجلسوا يقتسمون الإرث، بينما يجلس علي بجوار المقبرة يوقد الحطب ويصنع الشاي وطيف في الأفق يسامره.