حمل هاتفه الخلوي وكتاب، وسجائره الرديئة وعلبة ثقاب، وشراكًا أعده ليلة أمس من أجل صيده المرتقب، وفي مكان خفي بين الأعشاب الجافة، نصب فخه وجلس غير بعيد ينتظر.
كان ينصب الفخاخ كما يفعل الأطفال حين يريدون الإيقاع بعصفور صغير، ويحب أن يحصل على صيده وهو بكامل نشاطه وحيويته، من أجل ذلك فهو ينتظر طويلا فلا يجهد نفسه.
وحيد هو في عالم يضج بالعلاقات الحقيقية والمتوهمة، تخلى عن الحياة لكن الحياة لم تتخل عنه، يعيش في حجرة قذرة أعلى سطح بناية متهالكة في زقاق أحد الأحياء الشعبية، اعتاد الصخب وشظف العيش، الفت عيناه قبيح الصور، وطربت أذناه لنشاز الأصوات.
يبيع ما يقع في شباكه، ولا يطلب فيه الكثير، وإنما يكتفي بما يسد حاجته من علب التبغ ومسحوق القهوة لعدة أيام، يقتات على لحمه الذي أخذ يتآكل حتى برزت عظامه. يعيش كما يحلو له، لا قيود ولا محرمات. تعلم كيف يكون صيادًا ماهرًا، فتعلم لأجل ذلك الصبر الطويل، لكنه تعلم أيضًا ألا يتعلق بصيده مهما كان ، فهو يطيق الصبر كي يحصل عليه، لكنه لا يطيق صبرًا على الاحتفاظ به.
في كل ليلة يختبئ في حانوت قديم، يسامر أصدقاءه حتى الصباح، يتنفسون هواء معبأ بدخان السجائر المحشوة بأصناف المخدرات، ورغم ما يتناوله من ألوان شتى لمغيبات العقل؛ إلا أنه كان يعاني يقظته.
في كل ليلة يدور الحديث حول فاتنة الحي، وكيف يمكنهم الإيقاع بها، ويحكي كل واحد عن محاولته معها والتي باءت كالعادة بالفشل، لم يخبر أحدًا أنه هو الوحيد الذي ظفر بها، لكنه لفظها كما تلفظ أوراق الكلينكس بعد استعمالها، رغم دناءته إلا أنه كان يحفظ السر، فما الجدوى من أن يلطخ ما هو ملطخ في الأصل، كانت سياسته أن متعته لنفسه وحزنه لنفسه، فليس له حاجة أن يشاركه أحد فيهما.
كان مشغول الفكر بصيده الجديد والذي كان يعلم أنه يحتاج جهدًا بالغا، كما قد يدر عليه دخلًا جيدًا قد يكفيه مدة طويلة.
لمح صيده من بعيد شاردًا عن القطيع، يتبختر بغرور بين الأعشاب، كما كانت تتنقل هي بين صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، راقبه كما كان يراقبها في صمت، وهي تنثر عبيرها أينما حلت. رقيقة كلماتها كرقة النسيم في ليلة صيفية باردة، تنساب كلحنٍ عذبٍ على أوتار كمان يحكي قصة رومانسية كأساطير العشق اليونانية، ظل يراقبها من حساب وهمي يحمل اسم فتاة، فلم تكن لتقبل أن تدخله صرحها الحصين إلا بتلك الخدعة. عرف تفاصيل حياتها كما لو كان يحيا معها في بيتٍ واحد، لاحظ أنها تغير صورتها الشخصية حسب حالتها النفسية، فصورة الفتاة الحزينة الباكية دليل الألم ، و صورة طفلة تلهو، دليل السعادة والبراءة.
تكتب الشعر والخواطر العذبة، وتشاغب وتناقش وتداعب الجميع.
وضعت ذات يوم صورة حقيقية لها، ولكنها سرعان ما رفعتها وعادت إلى صورها الوهمية، ولأنه صياد ماهر؛ استطاع أن يحتفظ بتلك الصورة لديه، تأمل قسماتها طويلا؛ فأعجبته. جمالها الساكن ونظرتها التائهة رسمت بداخله علامات استفهام، تحول إلى فضول، سرعان ما أصبح رغبة جامحة في الوصول إلى صاحبة ذلك الوجه الذي يحمل من علامات المكر ما يساويها من علامات البراءة.
تابعها في جميع المجموعات الخاصة والعامة بحسابه الحقيقي، وكان بين الحين والآخر يدخل معها في نقاشات حول منشورات مختلفة. استمر الحال حتى ألفته، كان يضع لنفسه صورة وهمية لكنها تبدو حقيقية لناظرها، كأنه هو صاحبها، لم يساورها شك أنه هو. غاب مدة عن العالم الافتراضي، أزعجها غيابه الذي طال فملت الأشياء، غاب شغفها بالجدال والنقاش، أصبحت تدخل لحسابها سريعًا ثم تخرج، تنثر إعجاباتها هنا وهناك بلا كلام أو اكتراث.
ثم عاد معبأ بألم المرض المزعوم، كتب على صفحته الشخصية "عدنا .." وكتب على إحدى المجموعات "أشكر من سأل عني في غيابي، تعافيت والحمد لله"
تهللت أساريرها و بدا كأنما كان يراها من خلف الشاشة، كانت حروفها كخطوات غزال يتنقل بين ربوع ضيعة أعشابها خضراء زاهية، قالت له على استحياء "حمدا لله على السلامة .. افتقدناك"
اتسعت ابتسامته عندما قرأ عبارتها الأخيرة، علم أن صيده بدأ في ابتلاع الطعم، تفاعل مع تعليقها بوضع قلب، لم يضع لأحد سواها قلبا رغم أن مفتقديه كانوا كثيرين، شعر أنّ دقات قلبها علت عندما رأت ذلك القلب، وأنّ حمرة خجل علت وجنتيها سرعان ما تحولت إلى غضب، عندما لاحظت أنه لم يحصل أحد على قلب سواها. حذفت تعليقها وأغلقت الهاتف، كان يعلم أنها ستفعل ذلك وكان متعمدًا فعله، بعد دقائق أرسل إليها "لماذا حذفتِ تعليقك؟ هل أغضبتك؟"، فتحت الرسالة سريعًا، لكنها لم تجبه إلا بعد مدة، كانت تكتب وتحذف دون أن ترسل كأنما أصابها جنون، كان يعلم اضطرابها ويراقب النقاط الثلاثة وهي تضيء وتخبو أمامه، كأنما هي في صراع.
وأخيرًا جاءه الرد، قصيرًا مقتضبا "لا، حذف بالخطأ".
ابتسم وأرسل لها قلبا، فتحت الرسالة ولم ترد.
في اليوم التالي كتبت " ومن الوهم ما سحر"
فرد عليها "ومن الوهم ما أسر"
كان هدفه واضحًا ومحددًا، لم ينس يومًا أنه كان ضحية لإحداهن، أحبها حد الجنون، فخانته مع صديقه بكل ما امتلكت من دناءة، لم يدر بخلده يومًا أن تقضي فتاة على مستقبله، وأي فتاة..! إنها تلك التي أمنّها على قلبه، فأقسم أن ينتقم لنفسه من الجميع، ولم يحنث في القسم، فكم من فتاة بكت تحت قدميه ليرحم ضعفها بعدما ألبسها ثياب الخزي والعار، لم يسد رمقه ما قد سلف، كُنّ كماء البحر، كلما ارتوى منه ازداد عطشا، لم يكن ينتقي فتياته بمعايير يحددها هو لنفسه، بل أعمل نصله في الجميع، لم تسلم منه الكثيرات على مختلف صنوفهن وأفكارهن ومعتقداتهن، وعندما لاحت هي له في الأفق من بعيد علم أن سيكون له معها شأن، أصابه بعض خوف، لكن سرعان ما استعاد شجاعته، فمن هي تلك التي تخيفه!
كانت البداية بسوء تفاهم تبعه رد عنيف منها، انتهى الأمر بالنسبة لها، لكنه لم ينته عنده، تجاذبه صراع بين شعورين متناقضين، أحدهما يحثه على رد الاعتبار والآخر يستجدي فيه التسامح والاغتفار، ولكن نفسه الخربة انتصرت على ما بقى منه من طهر ونقاء، فحسم أمره ووضع خطة الحرب وانتظر اللحظة الحاسمة للنيل من فريسته والإيقاع بها في شراكه المحكمة.
كانت صعبة المراس فلم تستسلم بسهولة، لم يعرف أكانت صعوبتها في طهر حقيقي أم هو تمرس واعتياد على مثل هذه المواقف، افترض فيها السوء وأراد كسرها، وفي كل مرة كانت تظهر له براءتها وطهرها، بل وصدقها فيما حملته له بين طيات قلبها، وقعت في فخ الحب، لكنها لم تقع في شراك الرذيلة.
طلب رؤيتها فأرسلت له صورتها، لكنه كان نهم فطلب المزيد، لم تستجب فعاقبها بالابتعاد، ضعفت ... بكت ... اعتذرت ...لكنها لم تخضع لطلباته، أصرت على طهارة عشقها وأصر هو على السقوط في بئر الخديعة،
كانت هذه هي جولته الأخيرة معها، حسم أمره وقال في نفسه: "إما صياد أو فريسة"
ولأنه اعتاد أن يكون صيادا ، لم يدر بخلده أن يترك لها نفسه ليكون فريسة، كان طلبه واضحا... لقاء خاص جدا على طريقته!
لم تجب، فأمهلها لتحسم أمرها، تمنت نفسه أن تصفعه برفضها، لكن غروره رفض ذلك واستمر في المراوغة، كان ردها الهروب كما اعتاد هو منها في المواقف الحاسمة، أغلقت حسابها أياما، لكنه كان يعلم أنها ستعود، وعندما عادت لم يعرها أي اهتمام، ظلت حائرة، تريده ولكنها تخشاه، مر وقت ليس بقصير، أيام وأيام وهو ينتظر على يقين أنها ستجيب، لا يعلم بماذا ستجيب ولكنها ستفعل.
ظل يرقب صيده الذي اقترب من الفخ دون أن يشعر، رغم حرصه إلا أنه لم ير ما أعده له الصياد، انطلق خلف رغبته الجامحة في سد جوعه، والحصول على المزيد من الطعام، ما كان يعلم أن وراء بعض الآمال التي نسعى إليها آلام تنتظرنا لا نقوى على احتمالها.
الصيد يقترب، وهو يرتقب، وحانت اللحظة الحاسمة ووقع في الفخ فأسرع وأحكم قبضته عليه، شعر بالانتصار.
في الوقت ذاته أتته رسالة منها، فتحها .. ثم أرسل نظرة في الفضاء وعلى شفتيه ابتسامة رضا.
_ تمت _