لابد أن أعرف سر جاري هذا، لابد أن أدخل شقته... ولكن كيف؟... فكرت طويلا كيف أفعل ذلك ولم يهدني تفكيري لشيء، خرجت من البيت هائما على وجهي لا أعرف لنفسي وجهة اذهب إليها لكنني سرت مع السائرين، أعجبني أن أرى الشوارع مزدحمة من حولي، هذا طمأنني أن الأمور طبيعية، ساقتني قدماي إلى مقهى قريب من البيت، جلست في زاوية تسمح لي برؤية الشارع بوضوح، عند دخولي إلى المقهى لمحت ساعة كبيرة معلقة في الواجهة تشير عقاربها إلى الحادية عشر، الشمس دافئة... تغمر آشعتها الشوارع والأذقة، استمتعت بحركة الناس و السيارات التي لا تنتهي... قلت في نفسي باطمئنان " كل شيء طبيعي.." طلبت فنجان قهوة وأخرجت من جيبي علبة سجائري ورحت أتأملها، ما زالت بغلافها لم تمس مذ أن اشتريتها أول أمس، كيف لم أفتحها وأنا أدخن بنهم... رحت أنزع غلافها البلاستيكي وأنا شارد الذهن أفكر فيما أصابني و جعلني أذهل عن كل شيء حولي إلى هذا الحد، أخرجت واحدة ووضعتها بين شفتي في الوقت الذي أحضر فيه النادل القهوة ووضعها أمامي بهدوء، شكرته وأنا أمنحه نظرة امتنان خاطفة ثم اشعلت السيجارة، أخذت منها نفسا عميقا توهج رأسها فيه بشدة ثم نفثت الدخان في الهواء، تبعته ببصري وهو ينساب مكونا حلقات تداخلت وتراقصت حتى تلاشت، بعدها لمحت وجه جاري القميء، كان مقبلا نحوي وينظر لي نظرته الماكرة وعلى وجهه ابتسامة هازئة، فتحت عيني عن آخرهما وأمعنت النظر أكثر في الوجه المقبل نحوي فإذا به وجه النادل، كان يحمل طلبا لزبون يجلس خلفي مباشرة لذا التقت عينانا فجأة، ملت برأسي على الطاولة التي أمامي وأسندت جبهتي براحتي، أغلقت عيني وأنا أعصرهما عصرا لعلي أزيل ما علق بها من غبش يهيئ لي صورا وأشياء غريبة، رفعت رأسي من جديد لأجد المقهى قد خلا من رواده، اختفى قرص الشمس تحت غيمة كبيرة قاتمة جعلت الجو رماديا إيذانا بهطول أمطار غزيرة، أصبحت الشوارع خالية كذلك، وأنا وحدي بلا رفيق، تلفت حولي بذعر ولكن لم أر احدا... ظهر فجأة في الجهة المقابلة من الشارع، بهيئته الغامضة... البالطو الرمادي والقبعة الغريبة، التفت نحوي وابتسم ثم استدار ومشى في اتجاه الشقة، كانت التفاتته كأنها دعوة لي كي أتبعه، لم أشعر بنفسي إلا وأنا خلفه لا يفصلني عنه إلا بضعة أمتار قليلة، يسير بخطى ثابتة ومعتدلة، دخل العمارة وصعد السلم... صعدت خلفه، لم أشعر بأي إجهاد رغم كثرة الصعود، كذلك هو لم يبد عليه أي إجهاد، وصلنا إلى الطابق السابع حيث تقبع شقتي، سار في الممر نحوها و وقفت متخفيا خلف حائط السلم أنظر ماذا يفعل، وقف أمام الباب و أخرج من جيبه سلسلة مفاتيح ودس أحد مفاتيحها في القفل ففتحه، تساءلت وأنا أخرج سلسلة مفاتيحي من جيبي ... من أين حصل على مفتاح بيتي؟ ولماذا لم يدخل شقته؟ اقتربت بهدوء لأرى ماذا يفعل بالداخل، ترك خلفه الباب مفتوحا... قلت في نفسي لعله رآني وأرادني أن ألاحقه! قبل أن أقترب أكثر خرج هو مسرعا متجها إلى شقته، لم يفتح الباب ولكنه قرع الجرس بعصبية... لم ينفتح الباب فراح يقرعه بهيستريا حتى فتح، خرج منه شاب ثلاثيني وسيم... دفعه بعصبية ودخل، راح يفتش في كل مكان و على وجهه أمارات غضب شديد... كذلك الشاب كان غاضبا ومهتاجا، تشاجرا شجارا عنيفا لم أسمع فيه صوتيهما، وقفت مشدوها لما يحدث، كيف لا أسمع ما يقولان رغم اقترابي منهما، لقد مر من أمامي ولم يأبه بي... كذلك الشاب لم يبد عليه أنه انتبه لوجودي، صمتا فجأة والتفتا في اتجاه السلم، نظرت إلى حيث ينظران فرأيتها آتية لا أعلم من أين، كانت مرتدية ثوبا أنيقا وتحمل في يديها أكياسا كأنما كانت تتبضع، في البداية خطواتها كانت هادئة لكنها تعجلت عندما رأتهما ينظران نحوها، مرّت أمامهما من غير أن تلتفتْ لهما، دخلتْ الشقة ووضعتْ الأكياس على المنضدة نظر للشاب نظرة وعيد ثم تبعها.
في الشقة وقفتُ أمامهما وهما يتشاجران... الباب مغلق وأنا بينهما... كيف دخلت ومتى.؟.. لا أدري!
يصيحان بغضب وأنا لا أسمع ما الذي يقولان، راح يبعثر الأشياء بجنون، لم أسمع إلا تحطم آنية زجاجية كانت على المنضدة.
بعد طول شجار انهارت على الأريكة ودفنتْ وجهها بين كفيها وراحت تبكي... هدأت ثورته... اقترب منها بهدوء ثم جثا على ركبتيه أمامها، دفن رأسه بين فخذيها وراح يبكي، راحت تمسد رأسه بحنان ثم مالت عليه وقبلته قبلة طويلة، بعد لحظات رفعا رأسيهما نحوي، وجهاهما كانا غريبين، وجهها ملطخ بالدماء وغير واضح المعالم، أما هو فكان وجهه مشوها وعيناه مخيفتان، مفتوحتان عن آخرهما وفيهما غضب شديد، قفز نحوي فجأة كنمر يقفز نحو فريسته فرجعت للخلف متفاديا قفزته، لم أشعر إلا وأنا منقلبا على ظهري بالكرسي الذي كنت جالسا عليه في المقهى والناس من حولي ينظرون ويهمهمون بعبارات تعجب وأسف ممن حدث لي، مد النادل لي يده يساعدني على الوقوف، مسحت ملابسي التي تلطخت بالقهوة بمنديل ناولنيه فأخذته منه وأنا اتحاشى النظر في وجهه، دفعت تكلفة القهوة والخسائر ومضيت.....