خرجت من الحمام أترنح كجريح خرج لتوه من معركة غير متكافئة كاد يفقد حياته فيها مع وحش عملاق، جسدي يؤلمني في كل موضع منه، اتجهت إلى غرفة نومي وأنا متخذا من الجدران مسندا أتوكأ عليه مع كل خطوة، جلست على حافة السرير أفكر فيما حدث... هل ما حدث حقيقة أم خيال، من هو هذا الرجل الغامض... وما علاقتي به؟ لماذا يلازمني في أحلامي... أو... أو... لماذا أتابعه أنا؟!
أسئلة كثيرة كادت تطيح برأسي... لابد أن أذهب إلى الطبيب... فكرت بجدية، بعناء بالغ بدلت ملابسي، ارتديت بزة رمادية تحتها قميص أبيض بدون رابطة عنق، مع آخر قطعة ملابس ارتديتها سمعت همسا بالخارج، نظرت في المرآة لأتأكد من أنني مستيقظا، كانت المرآة ضبابية لا يظهر فيها شيء سوى عيناي المفتوحتان، رحت اتنصت من جديد... الهمس يزداد علوا ويتحول إلى ضجيج خافت لا إزعاج فيه، حركة غريبة من أناس كثيرين، وفي الخلفية صوت موسيقى هادئة تنبعث من ركن بعيد... خرجت بهدوء من غرفتي واجتزت الردهة الفاصلة بين جناح النوم والبهو، وكلما اقتربت يتضح الضجيج ويزداد أكثر فأكثر، أصوات متداخلة لأناس كثيرين، وضحكات نسائية تنبعث بين حين وآخر من أماكن متفرقة، من خلف ستارة شفافة نظرت فرأيت عجبا، رجال كثيرون في بزات أنيقة... وسيدات جميلات في فساتين سهرة باهظة الثمن، على الأريكة رأيته متكأ بكبرياء... كان الشاب الثلاثيني بوجهه الوسيم ونظرته الصارمة، يرتدي بزة سوداء فخمة ، وضع ساقا فوق ساق و راح يدخن سيجارا، حوله رجال يشبهونه... بالقرب من الشرفة كانت هي... تقف بين سيدتين ورجلين، جميلة كعادتها... ترتدي فستانا أسودا يضوي تحت الضوء، ضيقا وطويلا، بكم لكنه مكشوف الظهر، كانت تمسك في إحدى يديها كأسا فيه سائل شفاف وفي اليد الأخرى سيجارة، تتكلم وتضحك، ثم أخذت تروح وتجيء هنا وهناك توزع ابتساماتها على الحاضرين وترحب بهم كمضيفة في عشاء فاخر، مرت أمامي مرتين متجاهلة إياي.
بدأت اتجول بينهم ولا أحد يعيرني أي اهتمام، اتجهت نحو الشرفة حيث عادت هي لتقف من جديد مع ضيوفها، حاولت التنصت لأسمع ما تقوله لكنني لم أسمع سوى الضجيج وصوت الموسيقى والضحكات المتفرقة، دقائق قليلة وانفتح الباب ليدخل جاري الغامض بمعطفه الرمادي وقبعته الغريبة... حينها ساد الصمت وكفّت الموسيقى عن الصدح، نظر الجميع نحوه بترقب... أما هي... فقد اختفت ابتسامتها وسكن عينيها الخوف، بدا على وجهها الانزعاج فاقتربت من الشاب المتكئ على الأريكة الذي ظل محتفظا بوضعيته الهادئة والمتعجرفة ونظرته الصارمة و التي خالطها غضب مفاجئ، وضعت يدها على كتفه كأنما تستمد منه القوة فربت على يدها يطمئنها، اقترب الغريب منها شيئا فشيئا حتى صار في مواجهتها تماما، في عينيه حزن و سؤال... لماذا؟
بحركة فجائية أخرج شيئا من تحت معطفه وطعنها، كانت السكين ذات النصل العريض واليد المطلية بماء الذهب، طعنها في مقتل، ساد هرج ومرج وصراخ وعويل جعله يتحرك باضطراب و بغير هدى ملوحا بالسكين في كل اتجاه مهددا كل من يقترب منه، ظل يرجع للوراء حتى اقترب من الشرفة... كنت خلفه مباشرة أقف مشدوها لا أفهم شيئا، أخرج الشاب الوسيم من جيب سترته سلاحا وصوبه نحوه... في اللحظة التي أطلق عليه فيها الرصاص كان هو واقفا على أفريز الشرفة يريد القفز إلى الشرفة المجاورة، حاولت إمساكه كي لا يسقط لكن يداي لم تمسكان سوى الهواء.
ساد الصمت فجأة رغم الهرج والمرج بين الحاضرين، الجميع يجري في كل اتجاه هاربين، المشهد يتحرك ببطء شديد، لا شيء ثابت سواه يقف مشدوها ينظر نحو الشاب الثلاثيني الذي ثبت في وضعيته هو أيضا مصوبا سلاحه في اتجاه الشرفة، بدأ المشهد يتلاشى ويختفي عن عينيه، نظر من الأعلى على الجسد الممدد على ظهره على أرض الشارع الذي اكتظ فجأة بالمارة متحلقين حول القتيل، كان وجهه للأعلى ويداه مفرودتان، رأى وجهه بوضوح كأنما لا تفصله عنه كل هذه الطوابق كما رأى وجه القط من قبل، الوجهان متشابهان... القط والغريب.. رجع للخلف مرتعبا فاصطدم بباب الشرفة الزجاجي، التفت فإذا به يرى صورته بوضوح منعكسة على الزجاج أمامه، رجل طويل محني الظهر، نحيف بغير مبالغة، له بشرة تميل إلى السمرة، عيناه دائرية كثقبين في جدار خشن، على وجنتيه أثر إصابة بالجدري تركت بثورا ونتوءات على جلده لم تفلح لحيته القصيرة والمبعثرة في مداراتها، أنفه طويل ومدبب، فمه دائري وشفتاه غليظتان ومزمومتان في وضع التقبيل، لونهما أسود بسبب تدخينه المفرط، شعره رمادي قصير، يرتدي فوق رأسه قبعة ذات حافة طويلة من الأمام تخبئ نصف وجهه فتزيده غموضا.
_تمت_