"امتلأت بالفراغ، وكنت أظنه موحشا، لم أكن أعلم أن هذا الفراغ هو ما بقي لي ليؤنسني، أعجبني ذلك النقاء الغامر فرُحتُ أسطر فيه سطور حياة جديدة، حياة خالية من زيف الواقع... زيف الحب وزيف المعرفة... حياة خالية منك.... "
لم استطع اكمال ما بدأت لانه دخل علي حاملا بين يديه اكياسا مملوءة بأصناف شتى من الأطعمة
قال وهو يشير إلي بالأكياس كي أحملها عنه:
_أريد حساء الكوارع على الغداء.
دسست الدفتر بين الكتب المتكدسة على المكتب وهرولت نحوه، لم يهتم لحركتي المضطربة وأنا أدس الدفتر والتي كثيرا ما كان يراها عندما يقتحم علي خلوتي... اعتاد الأمر... أنا أيضا لا أعلم لماذا أخبئ أفكاري عنه، حيرني أمري هذا ولكنني مثله... أعتدت الفعل!!.
حملت الأكياس واتجهت نحو المطبخ وتركته واقفا على باب الحجرة، كنت قلقة، أخشى أن يفتش في أوراقي و يكشف أسراري... أعلم أنه لا يعرفني كما أريد... أم... أم أنني لا أعرف أنا نفسي؟! قفز السؤال إلى عقلي مباغتا لكنني نفضته، فأنا أعرف من أنا... ربما أعرف ذلك!!
رحت أتحرك في المطبخ بغير هدف إلا أن أَمُرّ بين حين وآخر أمام الباب وأراقبه، ظل واقفا لدقيقتين ثم اختفى، قلت في نفسي
_دخل الغرفة يبحث عما كنت أخبئه.
ازداد قلقي، تخيلته وهو يستخرج الدفتر من بين الكتب ويقرأ ما فيه، سرت ارتعاشة في عمودي الفقري ما لبثت أن تسربت إلى أطرافي
_لماذا القلق؟
قلت متصنعة الثبات ثم رحت أعد الطعام ورأسي يغلي بأفكار عدائية،
_فليفعل ما يحلو له، ماعاد يعنيني أن يجرحه كلامي أو يتأثر به.
كنت مستثارة جدا، أشعلت الموقد ووضعت القدر فوقه،
_سأخبره أني ما عدت أهتم لسخريته المزعجة من احلامي؛ فأحلامي كطائر مطلوق الجناحات ولا طاقة له بأيقافه.
قطعت الخضراوات ووضعتها صنفا بعد الآخر في الإناء، لا أكف عن العمل ولا عن التفكير، أتنقل بين القدور المرفوعة على النار أختبر نضج الأطعمة فيها، أغسل الأطباق وأنظف الأرضية، تتقاذفني الأفكار المزعجة بين ماض وحاضر، انتدبت في العام الماضي للعمل في مؤسسة أخرى، لم اعتد تلك التحكمات في الإدارة الجديدة، الجميع يعملون تحت ضغط نفسي؛ هكذا خيل إلي،
_الأعباء تتزايد على عاتقي في البيت والعمل... لا طاقة لي على ذلك... أريد خادمة!
قلت له ذلك وأنا أدس قدمي في جورب من الصوف اتقاء البرد قبل النوم، لم يلتفت إلي، رتب الفراش استعدادا للنوم، خبأ نفسه تحت الغطاء وقال: أطفئي النور!
سقط صحن على الأرض فأحدث ضجة أربكتني وأعادتني للواقع من جديد، لملمت اشلاء الصحن المتناثرة كأشلاء روحي في عالمه المتعالي، يداي مضطربتان و عيناي تروحان وتجيئان على باب الغرفة، توقف الزمن عند اللحظة التي اختفى فيها من أمامي، رحت أهزي بكلام غير مفهوم
_ألست أكتب له؟ لماذا أتحفز الآن لإشعال شجار لأنه يقرأ؟!
لم أجد جوابا، في كل مرة أفرغ بركان غضبي على الأوراق ثم أخبئها وأذهب للنوم، أراه في منامي عائدا حاملا لي باقة زهور، أستيقظ يملأني الأمل لكنني أجده يغط في نوم عميق، و في الصباح كأن شيئا لم يكن.
_أريد خادمة!
ما زلت ألح في طلبي الذي لم يسمعه إلا مرة واحدة، نظرت بتحد نحو باب الغرفة المضاءة، أعلم أنه لا مفر من المواجهة، أطفأت الموقد وخلعت مريول المطبخ، سرت بخطوات ثابتة نحوه، وقفت على باب الغرفة، كانت فارغة إلا من أوهامي، نبهني صوت مفتاح يعبث في قفل الباب الخارجي، لحظات قليلة ورأيته عائدا من الخارج وقد أحضر الصغار من مدارسهم، تعجب من وقوفي الذاهل على باب الحجرة، نظر إلي بازدراء ثم قال
_هل أعدت الحساء؟.