ليلة شتوية باردة والعتمة تلف المكان، الطريق خاليا إلا من بعض الكلاب الضالة وسيارتين يخيم على من فيهما حزن وكآبة، يكشف ضوء السيارة الخلفية السيارة الأخرى التي تسير أمامها، تجريان بسرعة كبيرة تنهبان الأرض نهبا، ذاهبتان إلى حيث لا أحد يعلم.
لا... بل أعلم، يبدو أنني مشوشة قليلا، نعم ...فما حدث لم يكن متوقعا، وهل كان من الممكن أن اتوقع هذا؟ كيف استطاعت؟ ألا تعلم أنه ما زال هناك الكثير من الأشياء التي يجب أن نفعلها معا! ما زال هناك حب وبر ووفاء، ألم تقل لي في اللحظات التي كان يهدأ فيها ألم الطلق أنها لن تحزنني أبدا؟ لماذا أحزنتني وتخلت عن كل ذلك قبل أن تتمه؟ هل أغضبها أنني منعته من الدخول عليها وهي باكية بسببه، هل ما زالت مقتنعة أنني أكرهه؟ وكيف أكرهه وهو من اختاره قلبها؟ اعترف أنني كنت اعامله ببعض جفاء، ولكن يشفع لي أنني وقفت في صفهما عندما وقف أهلها جميعهم ضدهما! كيف لم تفهم أنني ما أردت إلا تهدئتها ثم اتركه يعود إليها من جديد ليتخيرا معا اسم مولودهما؟ لماذا لم تصبر؟ كنت سأدعوه ثانية فيجلسان معا ويتسامران كما كانا يفعلان قبل ما حدث بدقائق قليلة... آه ياربي، لماذا تعاركا في هذه اللحظة؟.
انتفضت السيارة بشدة لمرورها فوق مطب اصطناعي قاس فانتفض جميع من فيها، تشبثت يد الجالسة بجوارها بذراعها مؤازرة لها للتخفيف من قسوة الرجة، لم يبد عليها انها تهتم بما يجري حولها أو تشعر به، أخذت تعد على أصابعها محركة شفتيها بدون صوت( أحد .. إثنين.. ثلاثاء .. أربعاء .. خميس... خمسة أيام فقط، مازال حليب السرسوب يملأ ثدييها، لِمَ لم تستجب لكلامي و تتغذى جيدا حتى ينزل اللبن المغذي للصغير؟! كان دائم البكاء طوال الليال الأربع الماضية، لم يشبع قط، لم تستطع النوم طيلة هذه الليالي بسبب بكائه المستمر، لو أنها استمعت إلي؟
انتبهت فجأة كأنها تذكرت شيئا، قالت محدثة ابنتها الجالسة في الكرسي الخلفي ( هل وضعتي الطعام المطهو في الثلاجة؟ أخشى أن يفسد ولا أجد لاختك شيئا تأكله بعدما نعود، اختك نفساء ولابد أن تتغذى! ) أجابتها دموع صامتة، هي أيضا لم تنتظر جوابا، حدقت بناظريها في السيارة الأمامية، ثم عادت لعراكها مع ذاكرتها المشوشة.
ولكن .. أين نحن ذاهبون؟! قطبت جبينها لحظات عصرت فيها ذاكرتها
يا الله تذكرت الآن... نعم.. نعم، نحن متجهون إلى قريتنا الصغيرة، فنحن لم نقض العيد هذا العام فيها، منعنا اقتراب موعد ولادة مريم، كانت قلقة جدا _ هكذا هي البكرية دائما_ لا تعرف شيئا عن آلام الطلق ولا كيف تتعامل مع المولود، لذلك كان لابد أن تكون تحت إشرافي سبعة أيام على الأقل، ألست انا من ولدتها وولدت بعدها خمسا، خبرتي كبيرة بعدد سنوات عمرها القصير، ثلاثة وعشرين عاما، صغيرة انت يا كبيرتي، كنت أضحك منك عندما كانت تفزعك حركات جنينك المفاجئة في بطنك، اسمعوا اسمعوا.. سأضحككم .. في المرة الأولى التي رفسها فيها ذلك الشقي بقدمه الصغير كانت راقدة بجواري على السرير، كنت مصابة يومها بدور برد شديد أرقدني خمسة أيام، تركتْ بيتها و زوجها و جاءت لتمرّضني فيها وتقوم على حاجة أبيها وإخوتها_ حنونة هي دائما _هبّت جالسة فجأة وهي تصرخ " شيء يجري في بطني، خذوه عني ..خذوه عني.." أخذت تقفز بعصبية محاولة القيام لتهرب خارج الحجرة ظانة أنها إذا جرت تركته عندي، انكسر السرير تحتنا من فرط حركتها المذعورة، وأنا لا أدري ماذا أفعل أأبكي من شدة ألمي أم أضحك من شدة جنونها؟.
انفرج فمها عن ابتسامة حزينة بينما ترقرقت من عينيها الذاهلتين دمعتان، ربتت يد الجالسة بجوارها على يدها المرتعشة، أخرجتها تلك اللمسة من أفكارها، السيارة تنهب الأرض والجميع واجمون، لا يقطع صمتهم إلا أزيز الموتور المتحشرج ألما لألمهم، السيارة التي تحمل الجثمان أمامهم، مكتوب على زجاجها الخلفي ( إ س ع ا ف) تسير بلا اكتراث، تدهس إطاراتها القاسية قلوب الناظرين، زقزقة صغير قطعت السكون المخيم في السيارة، تلفتت حولها تنظر مكانه، تحولت الزقزقة إلى نهنهات ثم تعالى صراخه، ألْجَمَ الغضب لسانها، لا تدري لماذا غضبت ولكن شيئا يشتعل بداخلها، تمنت لو ان يضع أحد يده على فمه فيخرسه، تداخل صوت بكاء الصغير مع صوت مناجاة أمه لها لحظة أن هدأ الطلق، تحسست موضع شفتيها على يدها عندما لثمتها " سامحيني يا أمي، لم أكن أعلم أنك تألمت كل هذا الألم فيّ" ربتت بيدها الحنون على وجنتها الباردة، أمسكت المنشفة وجففت قطرات العرق المتلألئة على جبينها الشاحب، قالت بحنان" لذلك انتم غالين يا مريمتي" أعادت الجملة بصوت خافت سمعته الجالسة بجوارها، ضمتها إلى صدرها بعطف، قالت مغالبة البكاء" ألهمك الله الصبر وربط على قلبك"، لم تنزل هذه الكلمات على قلبها بردا وسلاما، بل لم تصل إلى اذنيها الغارقتين في صوت مريمتها المناجي لها في لحظات الطلق" أحبك يا أمي، سامحيني يا أمي"، قالت بصوت مرتعش" سامحتك يا مريم، سامحتك يا أول فرحي، وأول حزني"، هدأ صوت الصغير وهدأ الغضب المشتعل بين جنبيها، مدت يدها تحمله عن ابنتها الحائرة في تدثيره، احتضنته بعينيها الدامعتين، احكمت الغطاء على جسده الصغير، قالت بتلقائية: سأرضعك عندما نصل.
شخصت ببصرها إلى الأمام، ارتسمت ابتسامة مذعنة على شفتيها المرتعشتين، وعيناها تطمئن وجها مضيئا كان حاضرا في الأفق واختفى.
_____________________