كانت الشمس تميل ناحية الغروب عندما ظهرت أمامي
،امرأة في عقدها الثالث، ذات قوام نحيف وأرداف ممتلئة بعض الشيء، بشرتها سمراء بفعل آشعة الشمس مع مياه البحر؛ كحال أغلب المصيفين، ترتدى سروالا أبيضا، قصيرا، يصل الى منتصف ساقيها، من فوقه كنزة وردية اللون، فضفاضة، ذات أكمام واسعة ومتهدله تخفى كفيها .. وحذاء رياضي جعل حركتها خفيفة وسريعة، لها شعر متدرج الطول والألوان ولكن غلب عليه اللون الأصفر. داعب الهواء خصلاتها فتطايرت حتى غطت وجهها، ورغم محاولاتها المستمرة في إزاحته للخلف إلا أن فعل الرياح كان أقوى منها فلم أستطع أن أتبين ملامحها جيدا .
كان باديا أنها وافدة مع وفود المصيفين الذين يأتون الى مدينتنا من باقي المحافظات، فقد وقفت حائرة ومضطربة لا علم لها بالأماكن. ظهرت أمامي فجأة وكان الطريق خاليا، رأيتها تلوح لي بكلتا يديها فوقفت لأرى ماذا تريد.
اسمى نبيل ... أعمل مديرا لمستشفى خاص... تخصصت فى الامراض الباطنة .. من أبناء الأسكندرية ..متزوج منذ عشر سنين ولم يرزقني الله بالأولاد، أسكن فى فيلا صغيرة تطل على البحر بمنطقة هادئة لا يسكنها إلا القليل من أبناء البلد، ولكنها في أشهر الصيف تكتظ بالمصيفين ورغم ذلك لا تفقد هدوءها ...وأحيانا وحشتها.
عندما اقتربت من السيدة وسألتها عن حاجتها، أخبرتني أنها تريد أن تذهب لأقرب طبيب، فإبنها مريض بالبيت .
بدت سعادتها كبيرة عندما علمت انني طبيب وزاد امتنانها عندما اخبرتها أن ليس لدى مانع من الذهاب معها لفحص الولد. سألتها مما يشتكى طفلها فأخبرتني أنه يعانى من مغص حاد ومفاجئ ولا تعلم له سببا.
استقرت بجواري في السيارة وانطلقنا معا صوب مسكنها....هدأ فعل الهواء فارتاحت خصلات شعرها على كتفيها؛ فلاحظت جرحا عميقا أسفل فكها الأيسر لم تفلح عمليات التجميل في إخفائه ... ولكنه لم يقلل من قدر جمالها بل أكاد أجزم أنه زادها حسنا. علقت في عنقها قلادة عجيبة على شكل نصف كرة من الكريستال الأسود يتدلى منها ثلاث حلقات في كل حلقة قطعة فضية مستديرة مرسوم عليها شكل يختلف عن الأخرى. لم أتبين إلا الوسطى منهم فقد كانت أكبرهم ومرسوم عليه وجه بومة.
السيدة جميلة، ولكن ثمة شيئ غريب في نظراتها لا أدرى أكان قلقا على ابنها أم هو خوف مني .
وصلنا إلى حيث أشارت ... فيلا صغيرة مكونة من طابقين تحيط بها حديقة أنيقة يبدو عليها اهتمام أصحابها؛ بها أشجار متنوعة وأحواض ورد متفرقة. عندما رأت باب الحديقة الحديدي مفتوحا أصابها القلق! اخبرتني انها اغلقته خلفها عندما خرجت، طمأنتها أنها قد تكون لم تنتبه لغلقه عندما خرجت مسرعة، لكنها لم تقتنع وقالت:
_لقد جاءوا !
قلت :
_من هم ؟
انتبهت انني سمعت كلمتها فهزت رأسها باضطراب وقالت
_ لا شيء.
ثم دخلت مسرعة وأنا خلفها. اجتزنا معا الممر المرصوف، صعدنا خمس درجات من السلم، كان الباب الزجاجي محكم الغلق، بحثت متعجلة عن المفتاح في جيبها فلم تجده فزاد توترها الذى انتقل إلىّ بالتبعية .
ما زالت الشمس في طريقها نحو المغيب وما زالت تنشر اشعتها الذهبية فوق البحر الذى أسمع صوته بشدة رغم أنه ليس أمامي.
قالت انتظرني قليلا فهناك باب جانبي أتمنى أن يكون مفتوحا ...وبالفعل اختفت في جهة جانبية ....دقائق قليلة وسمعت حركة بالداخل ثم فتح الباب وظهرت مجددا أمامي.
حاولت أن تخفي اضطرابها وترسم ابتسامة كاذبة على وجهها لكنها لم تفلح ... أشارت لي بالدخول فدخلت ... كانت الفيلا من الداخل أنيقة ومرتبة ..تظهر عليها مظاهر الاهتمام بالنظافة العامة ... ولكن شيئا ما أصابني بالانقباض لا أدري ما هو .. كما أنني لاحظت تغييرا عليها لكنني لم أستطع أن أحدده.
صحبتني بسرعة واضطراب إلى الطابق العلوى و أنين ابنها يقترب منا شيئا فشيئا. أثناء صعودنا سمعنا حركة بالأسفل، نظرت خلفها ثم دفعتني للأعلى بسرعة كأنما تريد أن نختفي عن أعين أحد ما.
في الطابق العلوى ثلاث حجرات، يأت صوت الطفل من التي في المنتصف .. دخلنا معا ...وجدته متقوسا على نفسه فى منتصف السرير، يضم ركبتيه بكلتا يديه إلى بطنه و يضغط بهما عليها ليسكت الألم. طفل فى العاشرة من عمره، يشبه أمه كثيرا، ويرتدي قلادة مثل التي ترتديها أمه. عرفت من الفحص الأولي أنه يعاني من مغص كلوي مفاجئ.
عندما أخرجت حقنة مسكنة لأغرسها في وريده؛ انتفض الولد وابتعد إلى آخر السرير بجوار الحائط وأخذ يصرخ ويقول 《لا أريد طبيبا ...لا أحب الحقن ....لا أريد طبيبا 》
تعاونت هي معي حتى حقنته وأخبرتها أنى سأظل بجواره حتى يهدأ وينام فشكرتني. هممت أن أسألها عن سبب اضطرابها ولكننا سمعنا صوتا يقترب من الحجرة التي نحن بها، قامت على الفور وأحكمت غلق الباب، لحظات ووجدنا المقبض يتحرك كأنما هناك من يحاول فتحة، هممت بالكلام لكنها وضعت يدها على فمي لتسكتني. مر الوقت ثقيلا وأنا لا أفهم ما الذي يحدث.
كف الذي بالخارج عن محاولاته لفتح الباب وسمعنا صوت خطواته يبتعد، مكثنا دقائق نترقب شيئا مريعا قد يحدث لكن لم يحدث شيء، اتجهت نحو الباب وفتحته نصف فتحة لتتأكد أن لا أحد بالخارج ثم أغلقته ثانية وجاءت معتذرة عما سببته لي من قلق.
سألتها:
_ من الذي بالخارج؟
قالت بتردد:
_إنهم آكلوا الظلال!
فغرت فمي متعجبا ثم ضحكت فقالت:
_ أعلم أن الأمر لا يصدق بل مضحك، لكنه حقيقة... حقيقة مخيفة.
لم أفهم ونظرت لها مستفهما فقالت:
_لا عليك، أنا من جئت بك إلى هنا وعلي أن أحميك حتى تخرج.
ثم استأذنتني كي تخرج لتؤمن طريق خروجي، وطلبت مني أن احكم غلق الغرفة ولا أفتحها إلا لها، وقالت أنها ستطرق الباب ثلاث طرقات متتاليات.
كان الأمر بالنسبة لي درب من الخيال المرعب ولكني حاولت أن أحافظ على شجاعتي. أحكمت غلق الباب خلفها وانتظرت، كان الولد يغط في نوم عميق، وخطواتها بالخارج تبتعد ثم تقترب ثم تبتعد ثانية.
لحظات وسمعت طرقاتها المتفق عليها ففتحت لها. كان وجهها ممتقعا من الخوف، قالت بهمس:
_إنهم ما زالوا بالخارج... ولكني أحضرت لك هذه
ثم أخرجت من جيبها قلادة كتلك التي تلبسها.
سألت :
_ما هذه؟
قالت وهي تضعها حول عنقي:
_هي التي ستحميك منهم
ثم أكملت برجاء
_أرجوك لا تنزعها عنك
شعرت بجفاف حلقي من شدة الخوف الذي انتابني للحظة، فطلبت كوب ماء. لم يكن بالحجرة أية مياه، قالت :
_سأحضر لك كوبا!
خرجت، ولكني نسيت أن أحكم غلق الباب خلفها، خلعت القلادة لأتفحصها فإذا بالباب يفتح ويتسلل منه ظل هائل تشكل على هيئة إنسان أسود بلا وجه.
سقطت القلادة من يدي من هول المنظر، لم أستطع الحركة أو الكلام، أخذ يقترب مني وأنا أشعر أن شيئا ينسحب من داخلي كأنها روحي تغادرني، سقطت على ركبتي من هول الألم الذي أشعر به، كدت أغيب عن الوعي لولا أنها جاءت سريعا وسلطت تلك القلادة في وجه الظل فأصدرت شعاعا لم تتحمله عيناي فأغلقتهما بشدة.
تبدد الظل واختفى وبدأت أستعيد وعيي وكانت هي تضع القلادة حول عنقي ثانية وهي تلومني على خلعها.
وبعد دقائق استعدنا فيها هدوءنا سألتها عن الأمر فقالت أن زوجها كان له علاقة بالعالم السفلي وكان يحضر أرواحا ويعمل أعمالا للسحر أغرى بها أصحاب المال والأعمال وذاع صيته بينهم، كان يستخدم الجن لإيذاء البعض لحساب آخرين، ولكن هذا النوع من الجن لم يستطع هو التحكم فيه فتغول عليه وقتله وأصبح يلاحقها هي وابنها، ثم أكملت أن هذا الجني يتغذى على الظلال، يمتص ظل البشر فيصيرون بلا ظل ثم يتلاشون بعد مدة، فيتحولون إلى رماد، وكان زوجها يعلم هذا ويعلم أن هذه القلادة تحميهم منهم، لكنه لم يستطع أن يحمي نفسه فقتلوه.
قالت والحزن والخوف يملئان عينيها
_ هربت أنا وابني من بيتنا الذي احتلته هذه المخلوقات بالكامل وأتينا إلى هنا لكنهم لاحقونا، يريدون الانتقام.
كنت غير مصدق لما تقول ولكن الذي رأيته زاد من حيرتي.
ناولتني الماء فشربت، وقالت:
_علي أن أخرجك من هنا قبل أن يصلوا إليك.
وقبل أن تخرج التفتت إلي وقالت:
_أرجوك ... لا تنزع القلادة.
ثم ابتسمت ابتسامة أرعبتني، فقد بدا لي فمها خاليا من الأسنان، كما أنني انتبهت لبعض التغيير الذى طرأ عليها و لاحظته منذ دخولي لكن لم أتبينه، لقد اختلفت ملابسها بعض الشيء، فبعد ان كان سروالها قصير رأيته الآن طويلا وكنزتها الوردية صارت قاتمة و قصيرة تبرز تقاسيم جسدها وحذاءها الرياضي أصبح حذاء نسائيا ذو كعب عال كنت أسمع دبيبه في الأرض ولم أنتبه له.
المدهش أن الظرف الذي نحن فيه لا يسمح لها بتبديل ملابسها ورغم ذلك أقنعت نفسى أنه قد يحدث .
طال غيابها بالخارج فشعرت بالقلق خاصة وأن الشمس قد غابت وبدأ الليل يسدل أستاره على المكان، ولم اعد أسمع أية أصوات لها او لتلك الكائنات التي تتحدث عنها.
كان الولد يغط في النوم، فحملت حقيبتي وتأكدت من وجود القلادة حول رقبتي وتسللت من الحجرة بهدوء، وعندما خرجت رأيت ما لم أكن أتخيله ... مكان مظلم إلا من بعض ضوء قادم من الخارج من خلال زجاج النوافذ التي لا تغطيها الستائر ...فرش مغطاة بأغطية بيضاء تجمعت فوقها الأتربة تبدو كأشباح متناثرة في كل مكان
لم تبد لى أية حياة في هذه الفيلا المهجورة بعكس ما رأيت اثناء دخولي ..عدت الى الحجرة التي بها الولد فوجدتها مظلمة والستائر مسدله والسرير خاويا كأن لم يمسه أحد منذ سنين.
لا أدري كيف نزلت الدرج وكيف اجتزت الباب الزجاجي ثم الحديقة ثم الباب الحديدي.
المدهش أنني عندما وجدت نفسي بالشارع كانت الشمس في طريقها للغروب وترسل آشعتها الذهبية على المكان كأنما قد توقف الزمن عند اللحظة التي التقيت فيها بتلك المرأة، وكانت الحديقة خربة، خاوية على عروشها، والمكان كأنه لم يزره زائر منذ سنين، حتى الباب الحديدي كان مسلسلا ومحكم بقفل صدئ كبير، تعجبت كيف كنت بالداخل وكيف خرجت والأبواب محكمة الغلق، رفعت بصري صوب إحدى النوافذ فرأيتها تطل من خلف الزجاج وابتسامتها المخيفة تملأ وجهها.
أسرعت وركبت سيارتي أريد الهروب من المكان، وعندما أدرت محركها، جعلني صوته انتفض، فتحت عيني فإذا بي في الفراش ترتعد فرائصي، رحت اتلفت حولي لأستكشف المكان، هذه حجرة نومي...قلت في نفسي متعجبا، كانت زوجتي بجواري تغط في النوم، دفعتها ببدي فاستيقظت، رأت العرق يتصبب من جبيني وانفاسي متلاحقة فعلمت أن كابوسا جثم على أنفاسي، أخذت تهدئ من روعي، وأحضرت لى كوب ماء شربت منه رشفتين ووضعته جانبا:
_كنت تحلم ؟
=بل كان كابوسا.
_ اكلت كثيرا فى العشا هذه الليلة
=يمكن.
نصحتني أن أتلو آية الكرسي ثم أنام ، ولتني ظهرها و في لحظات قليلة راحت في نوم عميق
بينما كنت أتحسس بارتياب تلك القلادة التي كانت حول عنقي .
_تمت